Site icon صحيفة الوطن

تجربة خاصة تصف تفاصيل مميزة في المجتمع الياباني … بلجيكية تكتب روايتها عن الحياة اليابانية: الياباني يهتم بالرقم وما يحق له لا يحق لليابانية

| عامر فؤاد عامر

إحدى ميّزات الترجمة أن تلعب دورها الرصين في خلق جسرٍ يصل بين ثقافات أهل الأرض، لتكون الترجمة رافد المعرفة الحقيقي في نقل المعلومة المفيدة والسليمة، واليوم لدينا رواية لكاتبة بلجيكيّة لها تجربة أدركناها من خلال عامٍ عصيب عاشته في شركة يابانيّة رغبةً منها في زيادة خبرتها وخلق جوٍّ من التواصل بين بلدها الأصلي «بلجيكا» والبلد الذي استقرت فيه لأن والدها سفير فيه وهو «اليابان»، لكنها تجربة مريرة بتفاصيلها وغنيّة في النتيجة.
ذكرت الدكتورة «لبانة مشوّح» التي قدّمت الترجمة في مقدمتها لهذه الرواية التي حملت اسم «ذهول وارتعاش»: «…. وكنت كلما استغرقت في قراءتي ازدادت دهشتي لما وقعت عليه من اكتشاف ثمين. فقد أخرجتني هذه الرواية من دائرة المألوف، والمألوف في الموضوع، والمألوف في الأسلوب، والمألوف في اللغة… والمقاربة… والبيئة… والعادات… والمعارف… وجعلتني ألج إلى عوالم لم ألقَها. جعلتني أمعن النظر في العلاقات الإنسانية والمعايير الفعليّة لتحضّر الإنسان، أو على الأقل لتقدّمه، وقدرته المذهلة على الإيلام حيناً، وعلى الصبر على تجرّع الألم والإذلال أحياناً». في المقدمة تلك تعريف عن «إيميلي نوتومب التي ولدت في اليابان في 13 آب 1967 لعائلة أرستقراطية من بروكسل والدها البارون باتريك الذي عمل في حقل الأدب والسفارة ومن هنا كان لهذه الأديبة أن زارت العديد من البلدان فعرفت تنوع الثقافات في عمرٍ مبكر، وعن روايتها «ذهول وارتعاش» فقد حصدت جوائز أدبيّة رفيعة أهمها الجائزة الكبرى للاكاديميّة الفرنسيّة عام 1999، وجائزة فلور عام 2007، وجائزة جان جينو الأدبيّة.

باختصار
الرواية صغيرة الحجم لكنها كبيرة الهمّ ويتضح ذلك من خلال وصف دقيق قدّمته الكاتبة «نوتومب» عن مراحل تجربة مهنيّة قامت بها من خلال عقد سنوي مع إحدى الشركات اليابانيّة المعروفة في العالم التجاري وهي شركة «يوميموتو» وعلى الرغم من رغبة الكاتبة في العمل بجديّة والقيام بصلة وصل إيجابيّة بين البلدين إلا أن العقبات ظهرت منذ يوم المقابلة، والذي اجتازته بكلّ قوّة ورحابة صدر، لتوقع عقدها في هذه الشركة وهي لم تتجاوز 22 من العمر، ما يميّز هذه الشركة هو التقاليد المهنيّة الصارمة فالمدير لا يمكن مقابلته لأنه أشبه بالإله وإن كان لا بدّ من اللقاء سيكون من الضروري رؤية رؤساء العمل الثلاثة قبله وتقديم التصاريح اللازمة أو سيكون السبب هو الاستقالة وتقديم الشكر، ويتبين من الرواية أن لكلّ رئيس من هؤلاء شخصيّة مختلفة منها الحانق والسمين والعصبي منها الضعيف والمتبرم والضجِر منها ما تتصف شخصيته بالوسامة والطول والخداع وهذه الشخصيّة هي التي شكّلت الموقف الأصعب في الأحداث لأنها الرئيس المباشر لإيميلي التي صادف أن كان تعيينها معها في نفس المكتب، وبينما إيميلي بدأت تحقق حضوراً وتميّزاً كان لرئيسها الأول في العمل وهي سيّدة عانت القهر المهني ما عانت إلى أن وصلت لمركز إداري في الشركة واسمها «موري» والتي شكلت لها صدمة قاسية في التعامل والمواجهة القاسية والتكسير من معنويات «إيميلي» واستخدام صلاحياتها كرئيسة لتكثيف العمل وإلغاء مهمتها في الترجمة وإدخالها في عالم المحاسبة والأرقام لتبيان نقاط ضعفها ثم تكليفها مهمّة في حمامات الشركة لتكون الطامة الكبرى بالنسبة لها وقضاء مدّة تتجاوز 4 أشهر كعاملة تنظف أوساخ الحمامات في ذلك المكان إلى أن ينتهي العقد وتنتهي المهمّة.

العمل أوّلاً
الرواية تبيّن تفاصيل خاصّة بالمجتمع الياباني الحادّ الطبع، من خلال الحياة المهنيّة، وقد عملت الكاتبة بأمانة إلى التمييز بين الحياة الاجتماعيّة والمهنيّة، فقد بينت حنينها في أكثر من موقع لصداقاتها القديمة، ولذكريات طفولتها مع المدينة اليابانيّة التي تربّت فيها، لكن الحالّ اختلف كثيراً عند الاحتكاك بالعمل، فقد كانت المنافسة صعبة على الرغم من أن ذلك لم يكن همّها أو أولويّتها في تلك التجربة، من جانبٍ آخر وصفت الكاتبة جانباً مضيئاً من خلال شخصيتين في كامل الشركة هما السيد «تنشي» الذي لقبته بالملاك وهو مدير قسم الألبان، ومدير «يوميموتو» الذي لقبته بالإله، وما عداهما فقد كان يتفنن في القسوة تبعاً لموقعه وتسلّطه.

الواجب في القهر
يهتم المجتمع الياباني بالرقم كثيراً، وهذا ما استنتجته الكاتبة منذ دخولها الوظيفة، فهم يعنون بتاريخ الولادة ويؤرشفون كلّ التفاصيل، ويعملون على مقارنة المدد الزمنيّة، ونتائج العمل خلالها، وربط كلّ هذه التفاصيل بالعادة والترتيب والتقليد وعدم تجاوز الآخر، من هنا انطلقت لتعرفنا إلى الفرق بين واجبات الذكر والأنثى، وما يحق للياباني ولا يحق لليابانيّة، وكيف بنى هذا المجتمع نفسه لتفوق الذكورة ومنحها أولويّة على الأنثى التي عليها الطاعة وقبولها دون أي تردد، وخلق وسواس في داخلها ستعانيه مدى الحياة، لتفهم أن الحياة هي هكذا حادة وقاسية، كنصل سكين لا بدّ أن يدخل الجسد وعن قناعة ورضا، وبالتالي التسليم بأنها الرقم 2 ولن تتجاوزه اليوم ولا غداً، فمنذ البداية حق الأمل وحق الحلم لديها مبتوران، لا بل سيف الواجبات هو الأهمّ من كلّ شيء، فالواجب هو أولويّة على حساب المشاعر الإنسانية ولا مكان للمشاعر أمام تقديم الواجب، وهذا ما يؤشر وحسبما ذكرت الكاتبة إلى رغبة الياباني بصورة عامة في التوجّه للانتحار وزيادة المعدل دون المقدرة على ضبط المسألة.

عجرفة وغرور يابانيان
المقارنة الأهمّ التي قدّمتها الكاتبة هي من خلال صفة الغرور التي باتت واضحة لدى عامة الشعب الياباني المدرك لتفوقه الفكري أمام العالم أجمع، فهو يَعُدّ المجتمع الغربي متوسط الذكاء بالنسبة له، وفي كثير من المواقع لا مجال لمقارنة إنجازات اليابان الفكريّة والعلميّة أمام إنجازات أوروبا مثلاً، لكن ذلك يأتي بصورة مزعجة وعلى حساب احترام الشخص بل إذلاله إن سمح الأمر، ولذلك يبدو سخط الكاتبة على هذه المسألة من خلال ذكرها بأن اليابان ذلك البلد الأول الذي تشرق فيه الشمس قبل كلّ دول العالم وعلى استكانتها في كثير من المواقع على وصفها بالغبية فقط لكونها لم تنجز في العمل المحاسبي الذي فُرض عليها كعقوبة، والذي هو ليس من اختصاصها في الأساس، لكنها تستكين لتدّرس ردّة فعل أولئك والصورة المتعجرفة التي يتألقون بها.

انتصارات متعددة
نهاية الرواية هي الأهمّ فقد حققت الكاتبة نجاحها 4 مرات، فمن خلال اجتياز مدّة العقد الوظيفي دون الهرب منه على الرغم من كلّ الضغوط التي مورست عليها، ولاسيما أنّها تعلم بأن ترك العمل يعني في اليابان إشارة حمراء لا تغتفر طوال حياة الإنسان فانصاعت احتراماً لتقليد ذلك البلد، والنجاح الثاني كان من خلال تحمل ضغوط 3 رؤساء لهم طباع قاسيّة كلّ واحد منهم فنان في فرض العقوبة، في حين أن الرئيس الأهمّ وهو مدير الشركة قدّم شكره واهتمامه في اليوم الأخير لـ«إيميلي» واعترف بأنها متفوقة في مجال الترجمة وكتابة التقارير، ولم يستفد منها في الشركة في مجالها الذي أبدعت فيه، وثالثاً في كتابة هذه التجربة عبر رواية لا تدع القارئ بأن يكره التفاصيل فيها، بل قدّمتها بجرعاتٍ سهلة الاحتمال مع وصف يثير التساؤل في كلّ الشخصيّات التي شكّلت عناصر حيّة في الرواية، وكأنّه فيلم سينمائي، والنقطة الرابعة هو انتصارها في وصول رسالة بعد مرور سنة على إصدار الرواية من رئيسها المباشر السيدة «موري» التي تشكر فيها «إيميلي نوتومب» ومكتوبة باللغة اليابانيّة، وهذا ما أثار سعادتها في نشوة الانتصار.

دعوة
في الرواية المترجمة تفاصيل كثيرة تشجّع القارئ على اكتشاف عالم كامل غريب عن عالمنا بتفاصيل متعددة، ولا يسعني المرور عليها هنا، لكن يسعني الدعوة والتشجيع على قراءتها. «ذهول وارتعاش» رواية للأديبة البلجيكيّة «إيميلي نوتومب» الصادرة عام 1999 جاءت بترجمتها الدكتورة «لبانة مشوّح» وهي من إصدارات الهيئة العامة السوريّة للكتاب– وزارة الثقافة 2015 وضمن الخطة الوطنيّة للترجمة.

Exit mobile version