Site icon صحيفة الوطن

الحياة تبدأ غداً… روبرت دينيرو يرفض الخضوع لقانون التقاعد ويسابق الحياة بتصميم وإرادة

| ديالا غنطوس

الحياة تبدأ غدا، هكذا يقولون وهكذا يروجون، ونعيش نحن على أمل أن تبدأ الحياة في اليوم التالي، لنستيقظ في يوم يشبه سابقه، ونعيش تفاصيله ذاتها مع بعض التغييرات التي بالكاد نلحظها، لكن المرآة تخبر عكس ذلك، فالوقت يرتسم على وجوهنا ويترك أثره في خطوط تقول إن الزمن يمضي وإن الحياة بدأت حقاً عندما تركت توقيعها على أجسادنا، ودقات الساعة التي تلهث عقاربها لتصل بنا إلى عمر أطلقوا عليه سن التقاعد، حيث يستسلم الجسد عن العمل ويتخذ من الأريكة رفيقا دائما، هكذا يروجون…. لكن الحقيقة هي عكس ذلك حقاً، إذ ما أجمل أن يصل المرء إلى عمر يكون فيه عبارة عن وعاء من الخبرة والتجارب، وما أبدعه عندما يحافظ على أناقته المعهودة وطموحه الدؤوب الذي يرفض التوقف بمجرد نيل لقب (متقاعد)، ولا أعلم لماذا معظم الناس يعلنون انتهاء خدماتهم جميعها بمجرد التسريح من العمل، أليس من الجدير أن تستمر الحياة وتبدأ غدا؟
ما دفعني إلى كتابة تلك المقدمة كانت مشاهدتي للفيلم الرائع (المتدرب The Intern) إنتاج عام 2015 الذي مزجت فيه المخرجة نانسي مايرز بين الكوميديا والرومانسية والدراما، لعب دور البطولة المبدع روبرت دي نيرو مؤدياً دور رجل متقاعد في السبعين من العمر، عمل لسنوات طويلة وبلغ مستويات إدارية عليا، ومع انتهاء خدمته الرسمية وإصابته بالملل، قرر خوض تجربة العمل التطوعي في إحدى الشركات التي طلبت متدربين بمواصفات مختلفة وكان روبرت دي نيرو مرشحاً بقوة لنيل الوظيفة.

لم يتردد بين ويتاكر (روبرت دي نيرو) في العمل تحت تصرف جولز أوستن رئيسة الشركة (آن هاثاواي)، ولم يتذمر من كون رئيسته بعمر ابنته، لم يغضب من تجاهلها وتقليلها من شأن قدرته على العمل، بأناقته المعتادة كان «بين» يستيقظ كل صباح ويرتدي بذلته الرسمية، يحمل حقيبته الدقيقة التفاصيل والمحتويات، ويذهب بنشاطِ شابٍ عشريني إلى عمله التطوعي، لم يدَع التقنية الحديثة تهزمه ولم يخف من التعلم ممن هم أصغر منه سناً وأقل منه خبرة.
«إن الموسيقيين لا يتقاعدون، بل يتوقفون عندما تفرَغ منهم الموسيقا، وأنا متأكد من وجود الموسيقا بي»، هذا ما قاله «بين» في الخطاب التعريفي المصور الذي سجله وأرسله للشركة التي يرغب في العمل لديها، أيقن «بين» أن دروس التاي تشي الاسترخائية وزيارة الأحفاد وحضور الجنازات ليست بالأمور القيِّمة التي يفترض أن يختصر حياته بعد التقاعد بممارستها، فدفعه ذلك لإعادة تصويب حياته وتوظيف طاقته لكي يثبت لنفسه قبل الآخرين أنه مازال قادراً على الإنتاج والعطاء، وعلى الرغم من وضعه المادي المرتاح قرر خوض التجربة وقبول التحدي بأن يبدأ من جديد كمتدرب مبتدئ في شركة ناشئة لبيع الملابس عن طريق الإنترنت وسط مجموعة من الشباب تباعد بينه وبينهم أجيال عدة ومفاهيم شتى، لم يزعجه استهجانهم لوجود رجل في عمره بينهم واستغرابهم لمظهره الكلاسيكي، حتى إن ثقته بنفسه وحكمته وباعه الطويل بالتعامل مع الناس وخبرته بسلوكهم كانت كلها عوامل مساعدة لتذليل العقبات واجتياز المواقف المحرجة بأسلوب لطيف لا يخلو من فكاهة مترافقة بابتسامة خجل وحياء، أحد تلك المواقف حين سأله الموظف الذي أجرى اختبار القبول للوظيفة سؤالاً تقليدياً حول ما يعتقد أنه سيصبح عليه بعد مرور 10 أعوام على تعيينه، قبل أن يستدرك الأمر لعدم ملاءمة السؤال لمتقدم في سنه.
في يوم عمله الأول، ضبط «بين» أكثر من منبه ليضمن استيقاظه مبكراً، واختار بذلة أنيقة تناسب مكانته ومظهره التقليدي، ووضب حقيبته التي تحوي حاجاته القديمة التي اعتاد استخدامها في عمله السابق، يفردها على مكتبه بجانب جهاز الكمبيوتر الذي لا يعلم عنه سوى القليل، يتم إعلامه لاحقاً بوقت مقابلته المختصرة مع جولز صاحبة الشركة، الشابة الناجحة الدائمة التوتر والانشغال والجادة لحد الصرامة، التي لا تميل للتعامل مع الكبار في السن نتيجة لعلاقتها المضطربة مع والديها، تقابله جولز باستخفاف مخجل، وتوافق باستياء على أن يصبح متدرباً في شركتها، تخبره أنها ليس لديها أي عمل تكلفه به حالياً، ستعلمه حين تحتاجه، ينتظر بضعة أيام دون أي رد منها، حتى أتت مهمته الأولى وكانت أخذ معطف مديرته جولز للتنظيف.
بفضل إيجابيته واجتهاده بالعمل ومبادرته، إضافة لطيبته ومد يد العون للجميع وامتلاكه لمشاعر الأبوة بداخله، يتمكن «بين» من كسب محبة واحترام زملائه الشباب، ويغدو صديقاً لهم ومرجعية لا يمكنهم الاستغناء عنها، فيمنح خبرته التي حصَّلها خلال مشوار حياته الغني لهؤلاء الشباب الذين مازالوا في العشرينيات من عمرهم، وهو بدوره تعلم منهم كيفية التعامل مع التقنيات الحديثة حتى إنه كان منفتحاً على فكرة الانضمام لموقع فيسبوك للمرة الأولى، وحدها مديرته جولز الغارقة في ضغوطات العمل وصعوبة التوفيق بين حياتها العملية وواجباتها العائلية تجاه زوجها وطفلتها، تأخرت بالانتباه إلى «بين» وإلى قدرته على تقديم المساعدة التي لم تؤمن بها بداية الأمر، قبل أن يقرر فرض نفسه على حياتها المهنية والشخصية، من خلال تقربه لها في العمل وممارسته لدور الموظف الناصح مبتكر الحلول، حتى بات مساعداً لا غنى عنه لرئيسته في العمل، فكان مستشاراً مقرباً لها حين واجهت ضغوطات من المستثمرين في الشركة الذين طالبوها بإجراء تعديل إداري بأن تتنازل عن مهمة الإدارة لمدير تنفيذي مختص يمكنه إصلاح وتقويم المشاكل الطارئة التي عانت منها الشركة، فكان «بين» لها خير سند في وجه تلك الضغوطات، مبدياً إيمانه بقدرتها على تخطي ذلك من دون الحاجة لتلبية مطالبهم بالتنازل عن إدارة الشركة التي كان لها الفضل الأول بنهوضها ونجاحها، وأيضاً عندما شارفت علاقة جولز بزوجها على الفشل، وهو الزوج المستكين الذي ضحى بنجاحه في عمله في سبيل تمكين زوجته من تحقيق حلم نجاحها، وتفرغ للاعتناء بابنتهما وتأدية كل الأعمال المنزلية بسبب انشغالها الدائم في عملها، دفعته وحدته وحاجته إلى شريك لخيانتها مع امرأة أخرى في لحظة ضعف، اكتشف «بين» تلك الخيانة لكنه لم يخبر جولز بما رآه، حتى لجأت هي إليه باعتباره الشخص الوحيد المؤتمن الذي تثق بحكمته وليقينها بأنه الصدر الحنون الذي يمكنها البوح له والاتكاء عليه ليخفف عنها ويسدي إليها النصيحة، وبالفعل كان له دور جوهري بتهيئتها للعفو والمسامحة وتقويم علاقتها بزوجها من دون التنازل عن كونها امرأة لها كيانها المستقل وناجحة في حياتها العملية.
تمكن روبرت دي نيرو عبر أدائه لشخصية الرجل المتقاعد المستمر في العمل من ترسيخ فكرة أن العلاقة بين الأجيال تقوم على التواصل لا الصراع، فكل جيل مكمل للآخر، وأثبت أن التقدم بالعمر لا يعني أنك صرت أقل أهمية وأنه قد حان الوقت للاستغناء عن خدماتك، بل على العكس، هناك أمور تحتاج لإنجازها كماً كبيراً من الخبرة والمعرفة والتجربة، لا يمتلكها سوى المخضرمين الذين عاشوا في هذه الدنيا فترة أطول.

Exit mobile version