Site icon صحيفة الوطن

هل من حمل عنها لونها؟! … حنان علي .. ليت ثرثرة الطفولة تعود!!

| إسماعيل مروة

أحرقت أثواب ثلاثين قبل أن تأتي
ثلاثون موعداً ردمت يدي
من الأرقام تنوء الروح
وجع العمر المخلوع، الصبح المطفأ
يحمل وجهك العيد
العيد الذي خبزني فطيرته
عن شمع الموائد.. في المواقد حجبني
كذا تقدم حنان علي نصوصها «من يحمل لوني عني؟» الصادر في دمشق عن دار التكوين، وهذا الكتاب هو الأول للكاتبة التي قدمت نفسها وكتابها النثري الأول كما وصفته، ولكن القارئ الذي يتصفح لون الكاتبة يجد أنها ليست كاتبة قادمة اليوم، وإن كانت تقدم كتابها الأول، فهي كاتبة هصرتها الكتابة، ومرغتها التجربة الكتابية على عتباتها قبل أن تجد الجرأة أو الفرصة لطباعة لونها الأول الذي ترجو الخروج منه، وتدعو قارئها لعلها تجد من يحمل هذا اللون عنها!

أنهكت فكانت جمعاً
تنوعت نصوص الكتاب، فهو كتاب نثري، لكنه ضم نصوصاً نثرية، ونصوصاً أخرى كفواصل وومضات منها من الشعرية الحظ الوافر، وفي النصوص نلمح الصورة المنهكة لإنسان سوري مهموم بما يجري، فالحرب أنهكت ما تبقى، ولم يعد الردم باليدين كافياً، ففاحت من النصوص روائح الدم والبارود والدمار، ورأينا قوافل الشهداء، وشهدنا المواكب كما لو أنها تمشي أمامنا «تغيرت كثيراً، كسولاً في اقتلاع خوذة الحرب، الغبار يكتظ بوجهك، يتناثر خلفك يلطخ المكان، يحط فوق حبالي الصوتية».
«قم، انزع رصاصك واذهب، ارجع لثكنتك، أطلق ضجيج يقيني أنك راحل لتعود، لا أطيق نذر الصمت، هجرة الانتظار تطفئني، الدرب تقص محطاتها دونك، تطوي لهفتها، الخيبة تنفثها في وجوه العائدين».
بصمت مؤرق، تتناول حنان علي موضوعة الحرب والفقد، وتؤكد العودة، فهي شأنها شأن الكثيرين تتوق لوجوه العائدين، وترجو ألا يكونوا بين الراحلين، وإن طلبت منه العودة إلى ثكنته، فهي تحمل يقينها بأن الراحل يرحل ليعود لا ليسكن الغياب.

الصوت والوتر
من الصعوبة أن يفرد المرء ذاته، والصعوبة الأكبر أن يفرد هذه الذات على الورق، والبوح والصدق أعمق بكثير من مباشرة طرح الغايات والرغائب وقد وقفت طويلاً أمام نص مميز في الكتاب:
«أقتلك والرغبة هاجس القاتل، لست ضحيتي! تتغلغل فيّ لعنة الميراث، ثورة يبارك الكون إسقاطها أنت، ويخنق المدى المولود أنثى.
اقتلني.. ويُقتل القاتل بصوت لشرياني نايات لا تغيب، لعينيّ ضوء الكفيف، لا ينفك صوتي يطوف كفّيك.. لن تقتلع من مرآتك أوتاره، جواره تخلد لمستحيل سكينتك».
ما في هذا المقطع من صوت داخلي يدعو إلى الإعجاب..
أمام موروث الذاكرة والمولود أنثى، ولعنة الميراث، مع حديث عن حاضر يختبئ وراء تلك الذاكرة لامرأة أنثى تلوب بحثاً عن مرآة وراء صوتها الذي لا يمكن للمدى أن يغيبه..
وهذا الصوت، وهذه الطزاجة في تناول القضايا له عالمه من السنديان والبلوط والضيعة والأغنيات.
«تعال إلى ضيعتنا، لا يزال في أفياء البلوط موعد لنا، كثيراً بكت أمي لأني لست صبياً أشبهه، جف حليبها».
«تعال إلى ضيعتنا لملوحة النبع حكايات لا تنتهي، النسوة في الصباحات يبكين الراحلين العائدين»
تتحول الصنعة إلى كائن يشارك عند الكاتبة، وتحافظ في الوقت نفسه على براءة القرية ونبعها وخصوصيتها في مواجهة المدائن والحرب، وللحقيقة فإنني دهشت عند قراءة الكتاب، وكانت القراءة ممتعة فوق ما أتوقع من كتاب أول، وهو ما جعلني أجزم بأن كتباً أخرى لم تكتمل سبقت الكتاب الأول الذي وصلنا، ودليل ذلك يبدأ بالعنوان المخاتل والذكي الذي يدفع القارئ إلى عتبات مختلفة في قراءة النص.
وللومضة أماكنها

ليس مكاناً واحداً ذاك الذي تأخذه الومضة، بل إن الومضة النثرية التي نثرتها حنان علي وهي تبحث عمن يحمل لونها تبشر بكتابة مختزلة راقية.
من طلاسم دمعي وظلال الحروف
أنسج عنه حكاية، لا يعرفها
وأرسم له لوحة
لن يعلقها على جدار غرفته
من الطلاسم تصوغ حكايتها التي لا يجيد فكها أحد غيره، حرفاً ولوحة، وكل ذلك منذور لغرفته التي تنتظر طلاسمها التي تصنعها له وحده، والحكايات لا تنتهي، فكيف إن كانت حكايات الحب والحرب، وعند فكرة الحرب والقتل تقدم الكاتبة فهماً ذاتياً عميقاً بعيداً عن أهزوجة سمعنا بها لقتيل وأمه.
يحكون سيرة الحرب وأصغي
لايتحدث القتيل
لذاكرته جرح يغشيه
فيؤثر الصمت
هو الذي يؤثر الصمت بفعل الجرح الذي غلبه، وما من أحد منا يمكن أن يغلب الجرح، وكما للحب حكايات، وللحرب حكايات، فإن حكايات الحرب لا تطغى ولو في زمن الحرب، فللحب متسع من الروح، يخلقه العاشق ذات لحظة، ليصوغ عالماً من تألق، وإن كان مغموساً بالحسرة.
على جناح الصبح يزورني
بأطياف أغنيتي أسكت الرصاص خارجاً
أعزف بأصابعه ملامح من مكان/أحكي له عنا
نحن الذين اغترب فينا الوطن/وضاع منه العنوان
وتنتظر حنان أن تنتهي الحرب، ولكن ليست النهاية الطبيعية، تريدها نهاية لا عودة لها بعد ذلك، نهاية بمقتل الحرب لا غير، تأمل وترجو، وهي ترى الطلاسم وتتبناها، وتكثر من ذكرها:
قادم
كراية أخيرة لا يتوقعها جندي الجبهة
تعلن مقتل الحرب…
«من يحمل لوني عني» ألوان متعددة يأتلف معها المكان، ولون واحد أحمر يصبغ الحياة والروح كما عبرت لوحة الغلاف، تسرد بنثرية وشاعرية قلق السوري وغربته بهدوء، وتحكي قصة موته بشفافية، وقصة شغفه بالحياة… فيها امرأة تعرف ما تريد.

Exit mobile version