Site icon صحيفة الوطن

تمثيل!

| غسان كامل ونّوس

من المستحيل أن يكون الناس جميعاً في مواقع القرار، أو أغلبيتهم، وأن يكون بإمكان الجميع التعبير عن آرائهم وأفكارهم واقتراحاتهم واعتراضاتهم وهمومهم، وإيصالها إلى حيث يجب أن تصل، أو يتمنّون ذلك؛ حتّى مع افتراض النوايا الحسنة والجهود الجادّة الحميدة؛ لذلك، فإن من الطبيعيّ أن يقوم أفراد منهم بهذا؛ عوضاً عن الجميع. وبقدر ما يكون هؤلاء أمناء على هذه المهمّة، صادقين متفّهمين قادرين على الاستيعاب والنقل، أو التمثّل؛ إذا ما كان الاقتناع متوافراً، وإذا ما كانت الحماسة قائمة، تكون الحال أفضل، ويحسّ الممثَّلون أن لهم حضوراً وكياناً ورأياً وموقفاً، وأنّ وجودهم أكثر جدوى.
وليس سهلاً أو يسيراً تأمين ذلك، في كثير من الأحيان. وتقع المهمّة النبيلة المعقّدة هذه، أو المسؤوليّة في ذلك، على من يضع هذه الرسالة لدى هذا الفرد أو ذاك، تلك المجموعة أو هذه؛ وبشكل أوضح، على واضعي الآليّة التي توصل الممثّلين إلى المواقع، التي يُفترض أن يكونوا فيها؛ يقولون، ويعبّرون، وينشطون…
وهناك بديهيّات في مثل هذه الحالات الاجتماعيّة، التي تعدّ آخر ما توصّل إليها التطوّر البشريّ في مساره المصيريّ، ومساعيه الاختياريّة، يضطرّ الكائن «العاقل» إلى عرضها، أو التذكير بها، أو التفكير في كيفيّة ممارستها بما هو أجدى وأرضى!
فإذا كان من يمثّلني ضعيفاً؛ بحجّة حاجته إلى العودة إليّ في كلّ شيء؛ فلا يعني ذلك أنني قويّ!
وإذا كان من يمثّلني شحيحاً؛ على أساس أنني أُلْقِمُهُ ما يُقيتُه؛ فلا يدلّ ذلك على أنني غنيّ!
وإذا ارتضيت أن يكون من يمثّلني فاسداً؛ ليظهرَ شرفي بمقارنته بي؛ فلستُ شريفاً ولا نظيفاً!
وإذا كان من يمثّلني جباناً، فاجراً، منافقاً، مهزوزاً، محتالاً… فلن أكون مقداماً، لبقاً، صدوقاً، متماسكاً، ملتزماً…
إنه صورتي التي تظهر في الأماكن، التي يحلّ فيها، وفي العمل الموكل إليه، وفي سلوكه، وفي الوقائع وأصدائها. وبقدر ما يكون تمثيله منطقيّاً، واقعيّاً، تكون حالنا أوضح، وأقرب إلى ما سينطبع في تصوّر الآخرين، ويستطيع هذا الممثّل «المناسب» أن «يبدع» في تمثيله لنا، بإخراج كثير ممّا في نفسه، ليعبّر عنّا أكثر، ويزيدنا ألقاً على ألق، أو عكارة على عكارة!
المؤسف، أنّنا؛ وحرصاً منّا على أن يكون الممثّلون في قبضتنا، ومعبّرين عنّا خير تعبير؛ ومخافة أن «يتسلّل» إلى تلك المواقع بعض المصطادين في مثل هذه المعتركات، المُتقنين فنونها، الموجَّهين لاستغلالها- نقوم نحن، وبكامل قوانا «العقليّة»، وبملء إرادتنا، وتجاربنا النضاليّة، وخبرتنا الاستقصائيّة، بما يؤمّن وصول من نريد بالتحديد والقياس إلى تلك المسؤوليّات؛ فننام قريري العيون هانئيها! من دون الاهتمام بأنّنا كثيراً ما نختار من لا يستحقّ، أو لا يحظى بالرضا العام، وليست لدى الأغلبية القناعة بأنّه يمثّلهم، أو سيكون الوجه المشرق لهم، والصوت الذي يتمنّون أن يصل!
وإذا ما عُدّ وصول بعضٍ خللاً في الخيار؛ نتيجة خداع أو غموض أو غفلة؛ مع أن من المفترض عدم حدوثه؛ لأن الأمر ليس طارئاً أو مفاجئاً وعارضاً؛ بل هو متكرّر دوريّاً، ومواسمه معروفة وفصوله كذلك، ببيادرها ورياحها كلّها، وصقيعها وصحوها… مع ذلك، إن حدث مثل هذا؛ فمن غير المنطقيّ ولا المفهوم ولا المقبول أن يتكرّر الخيار الخاطئ، أو الاختيار الكارثيّ لأكثر من مرّة؛ فنكون حينئذ، إمّا غير قادرين على تجميع الوقائع، أو التصوّرات، أو الأفكار.. وقراءتها وتحليلها، أو غير مبالين بالعمل وضروراته، والواقع والتزاماته، والوطن ومقدّساته؛ وإن كان من يختارون، ليسوا أنفسهم؛ فالمنظومة هي نفسها، والنتيجة ذاتها!
أليس من المطلوب والضروريّ والمنطقيّ، أن تجري عمليّة تقويميّة في نهاية كلّ مرحلة، لنعرف مدى قيام هذا «الممثّل» بواجبه تجاهنا، وتجاه البلد، ومستوى أدائه المهمّة التي مارسها، ونقدّر الفائدة من إعادته إلى ذلك الدور، أو تكليف بدائل أفضل؟!
الأمر الآخر المهمّ في هذه النقطة، أنّنا نظلم هذا الشخص، ونظلم أنفسنا، ونضحك على ذقوننا، حين نعرف إمكانيّاته المحدودة، وطاقاته الشحيحة، وننتظر منه، أو نطلب القيام بالمعجزات! أم إنّنا لا نريد منه شيئاً ذا قيمة، سوى أن يكون حاضراً بجسده، وموافقته، وطاعته!
الكارثيّة في مثل هذه الأخطاء، التي لا نتعلّم منها، إذا ما كانت غير مقصودة، أن الزمن لا ينتظر، ولا يعبأ بعثراتنا، ولا يأبه بأخطائنا، والتاريخ لا يرحم، والمتطلّبات لا تنتهي؛ بل هي في ازدياد، وتعقيد، مع مؤثّرات عصريّة فاعلة، محرّضة، ومراقِبة، وكاشفة، ومضلِّلة، وطاعنة في القلب والظهر؛ فكيف تكون المواجهة؟! بالعقليّة القديمة ذاتها، بالطريقة عينها، بالأدوات والعناصر والأرصدة، التي لم تعد تناسب، ولا تفيد، ولا تلبّي…؟! لا يكفي أن نتحدّث جيّداً، في كلّ مرّة، ونَعِدُ، ونعتذر، إذا لم يكن العكس هو ما يحصل؛ فلا ننظر إلى من تأذّى أو احتجّ أو انكفأ.. ولا نسأل عن السبب؛ حينئذ يكون التمثيل ليس لنا؛ بل علينا، وهؤلاء ليسوا رسلنا إلى حيث نرجو، ونأمل، أو نطلب، ونفرض؛ بل إلى العالم السفليّ؛ حيث المصير القاتم.
وعلى نفسها وأهلها جنت «براقش»!

Exit mobile version