Site icon صحيفة الوطن

حتى لا تأخذنا الحرب النفسية بعيداً

عبد المنعم علي عيسى: 

 

إذا ما أردنا الكشف عن جزء من المسكوت عنه في العلاقة التي تربط كلاً من أنقرة وطهران ببعضهما البعض تحديداً في الشأن السوري، يمكننا القول إن تلك العلاقة تقوم على جملة من التفاهمات الشفوية وهي تقضي بوجوب عدم الوصول إلى مجابهة عسكرية مباشرة على الأراضي السورية (وهذا أمر لا يسيء إلى الدور الإيراني فهو أفضل الممكن) الأمر الذي يحتّم وجود لوائح (شفوية أيضاً) تحدد لكل منهما الخطوط الحمر (وكذلك الصفر والخضر) في علاقتهما التي يجب ألا تنقطع، قبل أن تعمد أنقرة إلى كسر تلك التفاهمات انطلاقاً من رعايتها لجيش الفتح 25/3/2015 وعمليات الدعم اللوجستي التي وصلت حد المشاركة التركية المباشرة، كانت الأصابع التركية ملحوظة في كثير من المفاصل المهمة كالتنسيق في إدارة الوفرة النارية الهائلة التي كان لها دور كبير في المواجهات وكذلك في المعلومات الاستخباراتية وصولاً إلى التشويش على اتصالات الجيش السوري والتي برزت مفاعيلها بشكل واضح في محاولة الجيش استعادة القصر الصيني في جبل الأربعين 28/5/2015 وفي أورم الجوز 29/5/2015.
يبدو أن الإيرانيين كانوا قد قصروا في تقدير المخططات التركية في الشمال السوري ولم تكن تقديراتهم ترى أن اندفاعات أنقرة سوف تصل إلى ما وصلت إليه استناداً إلى تلك التفاهمات السابقة الذكر فضلاً عن أن تلك الاندفاعات تندرج بشكل أساسي تحت مسمى «المقامرة» أكثر من أي شيء آخر.
كما يبدو أن طهران لم تكن قد فقدت ثقتها تماماً في التحالف الدولي الذي تتزعمه واشنطن ضد تنظيم الدولة الإسلامية منذ أيلول 2014، وهي لم تفعل (لم تفقد الثقة في التحالف) إلا بعد ثبوت الدور المحوري الذي قامت به واشنطن في إسقاط مدينة الرمادي العراقية 17/5/2015 وبعدها بثلاثة أيام مدينة تدمر السورية 20/5/2015.
كان من المستحيل على داعش السيطرة على تدمر قبيل أن تجعل من الرمادي نقطة استناد مهمة لها إذ تشير التقارير إلى خروج سبعة آلاف مقاتل من الرقة ودير الزور باتجاه الرمادي وبعد اجتياح هذه الأخيرة تمّ التوجه إلى مدينة السخنة (100 كم جنوب شرق الرقة) ومنها إلى تدمر عبر خطوط إمداد وصلت حتى 600 كم على مرأى ومسمع من الأقمار الصناعية الأميركية التي لم تكلف نفسها أعباء نقل تلك المشاهدات إلى من يهمهم الأمر.
لم يعد هناك من ستار يمكن أن يغشي عيني الناظر إلى المرامي الأميركية في تعاطيها مع تنظيم الدولة الإسلامية، فواشنطن اليوم تسعى إلى احتواء التنظيم في العراق في حين أنها تسعى إلى تجميعه في سورية، وفي أوائل الشهر الجاري خرج ذلك إلى العلن مباشرة عبر تصريح لرئيس فريق مراقبة الأمم المتحدة اليكساندر إيفانز قال فيه «إن هزيمة داعش على المدى المتوسط ليست مستحيلة إلا أن تلك الهزيمة قد يترتب عليها عواقب غير مقصودة تتمثل في بعثرة المقاتلين الإرهابيين في جميع أنحاء العالم».
إذاً واشنطن لا تريد هزيمة داعش حتى على المدى المتوسط لأنها لا تريد بعثرة ما عملت على تجميعه في سورية قبل أن تتفتح آفاق جديدة أو جبهات جديدة تتطلب رحيل ذلك التجمع كما تقتضيه عملية حماية- أو فرض- المصالح الأميركية على اتساع هذا العالم.
سياسياً من الواضح أن الموقف الأميركي في سورية لا يزال متمسكاً إلى الآن بخريطة جيوسياسية جديدة لكن وفق التقسيمات الحدودية الحالية، وهو الأمر الذي يفسر على أساسه الأهمية القصوى التي توليها القيادة السورية لمعركة القلمون.
مارست موسكو على امتداد الأزمة السورية سياسة حماية الدولة السورية ومنعها من الانفراط وهي لم تنفك تعلن إلى اليوم عن دعمها لدمشق وعن عزمها على تقديم كل ما يلزم لها لكي تتمكن من محاربة الإرهاب المستشري على أراضيها، وهي لم تعمد إلى المقايضة على دمشق تحت أي ظرف كان حتى ولا بالدرع الصاروخي الأميركي الذي كان يحكى أنه قد يكون الثمن الذي تطلبه موسكو لكي تغيّر موقفها الداعم لدمشق، فموسكو تدرك أن ذلك الدرع سوف ينصب اليوم أو غداً ولا طائل من قبض ثمن- على أهميته- في ظل وجود ضمانة لامتلاك السلعة التي تم شراؤها به.
تغيرت طبيعة العلاقة بين موسكو والغرب كثيراً بعد الأزمة الأوكرانية (تشرين الأول 2013) التي حاكت واشنطن خيوطها بدقة عبر دعمها لحركة (بورا) الأوكرانية التي تنضوي تحت إدارة وتمويل الملياردير اليهودي جورج سوروس الذي قال عنه الرئيس الأميركي بيل كلينتون «إنه ثروة قومية أميركية» في العام 1996، وهي (حركة بورا) لها الكثير من الشقيقات اللواتي ينضوين تحت الإدارة نفسها والتمويل نفسه مثل حركة (أوتبورا) في صربيا وحركة «كمارا» في جورجيا و6 أبريل في مصر، ثورة الأرز في لبنان- الثورة الخضراء في إيران- لجان التنسيق المحلية في سورية.
كان الرد الروسي التلقائي على مشروع تفكيك الاتحاد الروسي (كان الغرب يعمل على احتواء روسيا ما قبل الأزمة الأوكرانية) بالتصلب في كييف وفي دمشق التي اعتبرها بوتين خط الدفاع الأول عن موسكو، كان ذلك التصلب رسالة مفهومة جيداً للغرب ولواشنطن فقد كانت رؤيا بوتين لما يجري بأنه لا يعدو أن يكون نسخة عما أراده هتلر في العام 1941 عندما وصلت قواته على أعتاب موسكو في العام 1943 قبل أن يستطيع الجيش الأحمر أن يفرض نهاية تلك الحرب في برلين أيار 1945.
من لم يفهم تلك الرسائل المتبادلة فيما بين روسيا والغرب هم الخليجيون فقط ومن هنا يمكن أن نفهم تلك البلاهة السياسية التي تظهر عليها الكثير من السياسات الخليجية، لم يستطع الخليجيون أن يفهموا (مثلاً) كيف يمكن لرئيس أن يرفض كل ذاك الكم الهائل من الإغراءات، في مقابل الاستجابة لمطالب سياسية، كما لم يستطيعوا أن يفهموا أيضاً كيف أن الرئيس بوتين كان مستعداً للذهاب إلى أبعد مما ذهب إليه إذا ما استدعى الأمر ذلك لإنجاح القرار الذي يقضي بضم شبه جزيرة القرم إلى الاتحاد الروسي الذي صدّق عليه بوتين في 21/3/2014.
زيارة العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز التي يزمع القيام بها إلى موسكو للقاء الرئيس الروسي خلال الشهر الجاري والتي يأمل فيها تلمس «متغيرات ما» أو «ثغرات ما» في مواقف موسكو تجاه دمشق (كما ستحمل طلباً سعودياً ببقاء طوق النجاة الروسي جاهزاً على الدوام في اليمن) لن تفضي إلى شيء، وهو (الملك سلمان) لن يعود من موسكو بأكثر مما عاد به بندر بن سلطان من لقاء المقايضة الشهير في سوتشي كانون الأول 2014.
لدمشق حلفاء لن يتخلوا عنها ولأميركا أتباع سرعان ما تتخلى عنهم، لننتظر الثلاثين من حزيران وسنرى.

Exit mobile version