Site icon صحيفة الوطن

الموسيقا لغة نبيلة وهي من روح الله .. سهيل عرفة لـ «الوطن»: أصيبت الأغنية السورية بفيروس يقوم بتشويهها وبتشويه كل ما يرتبط بها .. تجاهل الأغنية السورية وعدم بثها في الأوقات والبرامج المناسبة هو بحد ذاته هجوم عليها وعلى تراثها وطربها وأصالتها

| سوسن صيداوي -«تصوير: طارق السعدوني»

يتمركز الكون في دمشق… هكذا هي الحال وجاءت الظروف وما آلت إليه الأوضاع اليوم كي تؤكد قوة سحر الشام وجاذبيتها التي تغنّى بها العشاق والشعراء وكل المحبين للظرف الزمني أو المكاني الذي جمعهم فيها، ليس فقط أبناء سورية وبالتحديد الدمشقيون، بل إن كل من جاء لزيارتها يوماً لن ينساها وربما سيوظف ظروفه كي يزورها وعلى أقل تقدير مرة أخرى، هذا أمر طبيعي ولا نستغربه نحن الدمشقيين، لأننا معتادون هذا السحر والجاذبية التي فعلت فعلها بأبنائها… ومن الأبناء من سمع وهو في رحم أمه صوت الشام، بكل ما يزينها من ياسمين وأشجار الكبّاد والليمون، وصوت نافورة مياه بيوتها، والزغاريد والأصوات المحيطة الضاحكة والباكية وحتى صمت حجارة حواريها كان له أثر… كلّها جذبته رغم كونه جنيناً يتكون في أحشاء والدته، كموسيقا اعتنقها والتزامها مذهبا حياتيّا مقدسا رغم ما لاقاه من تعنيف أبوي وقسوة لا محدودة مقارنة برقة أنغام عود كرر احتضانه بكل عاطفته محاولاً منع تحطيمه، ولكن رغم المحاولات تحول العود ولعدة مرات… إلى حطام، في زمن خشي فيه الأهالي على أطفالهم الأعزاء من «لعنة الفن» بكل أنواعه، سهيل عرفة هو من تحدّى الكل ابتداء من نفسه، ومن حب الشام وقاسيون على الخصوص وسورية على العموم قدّم أغاني للآن يتغنى بها الجميع، من صباحات الوطن التي تتجدد ولا يمكن لشمسها أن تخفق في وعدها بالإشراق كانت أغنية صباح الخير يا وطنا وما زالت حاضرة في القلوب والأذهان كي تؤكد هويتنا وهوية الأغنية السورية في مواجهة من يحاول طمسها.
صحيفة «الوطن» انفردت في لقاء مع الملحن سهيل عرفة الذي أحب أن يطل على كل من هو مهتم به، كي ينقل له رسالة مهمة ويحمّله مسؤولية هو نفسه لا يمكن أن يتخلى عنها رغم أن المرض حاول إضعاف إرادته.

كانت والدتك وأنت رضيع تهدهد وتغني لك كي تنام.. هل يمكننا القول إن هذا هو سبب أساسي من بين الأسباب التي ساعدت على تنشئتك كمغنٍ في البداية ثم كملحن وبعدها كموسيقار؟
كل طفل وهو في رحم أمه قادر على سماع ما يحيط به، لكن حسب البيئة، فمنهم من يسمع المغنى ومنهم من يسمع مشاكل الزوجين ومنهم من يسمع الضوضاء، والمحظوظ هو من يسمع موسيقا لأن الموسيقا لغة نبيلة وهي من روح الله، والوحيد الذي استطاع أن يقلّد الطبيعة من حيث صوت البحر وأمواجه وصوت حفيف الأشجار كان بيتهوفن وهو أطرش ولا يستطيع أن يسمع، فالله سبحانه خلق لنا الموسيقا، وأي بلد نذهب إليه، نجدهم يسعون إلى تطوير موسيقاهم وأغانيهم…. إلا نحن.

هل تعتبر أن السوريون هم ضد الأغنية السورية؟
بالطبع… وللأسف الشديد السوريين أساؤوا للأغنية السورية، لماذا لا أعرف السبب، وأنا أستغرب هل من أحد لا يحب هويته؟ فالأغنية والموسيقا هي هويتنا، فمثلا اليوم الموسيقا التصويرية ذهبت هويتها، لأن الكل يقومون بأخذ مقاطع موسيقية من عدة ثقافات ويقومون بدمجها، وفي الوقت الحالي لا يوجد من يدعم الموسيقا التصويرية إلا أقلية والأقلية لا تكفي، فما أقصده على وجه التحديد أن الأغنية السورية اليوم أصيبت بفيروس يقوم بتشويهها وبتشويه كل ما يرتبط بها من كلام أو لحن، فهناك انحدار لفظي منتشر في أغنيتنا بشكل مرعب فعلى سبيل المثال وكي أوضح، هناك العديد من الأغاني التي كلامها مثل هذا الكلام «يا ويل علي يا ويلي… متل الورق طيرتيني»، ما هذا الكلام؟ هذا الكلام يجب ألا يخرج من فم رجل لديه قضية أو مبدأ وهو عليه واجب الدفاع عن وطنه وتحمّل واجب القضية الفلسطينية، وكيف يقول كلاماً كهذا؟ وكم من فرق بينه وبين الجندي السوري الذي يعاني من برد الشتاء القارص أو حر الصيف القاسي والشوق الكبير إلى أهله ورغم كل ما يواجهه من تحديات تراه واقفا شامخا معانقا بندقيته كي يحرر سورية وطنه.

أين الرقابة على هذا الموضوع؟
للأسف لا رقيب ولا حسيب، ومن واجبي أن أوجّه نداء للإذاعة السورية، فهي الأكاديمية التي تعلّمنا منها، وكانت الإذاعة الأولى بعد مصر، ولإذاعة دمشق فضل عليّ وعلى كل الفنانين السوريين بشكل خاص والعرب بشكل عام، إذاعة دمشق هي أمي الثانية، ولكنني شديد الحزن من الإدارة التي سلّمت إذاعة دمشق إلى شبان لا يمتلكون ذاكرة عن أرشيف أغانيها خلال البث المباشر لبرامجها، وما يتم اختياره من الأغاني خاضع لمزاج مهندسي الصوت في غرفة الكنترول، وللأسف الشديد هم غافلون عن أهمية هذه الرسالة وعن خطورة ودقة الموضوع، وفي الوقت نفسه يفترض أن يكونوا أمناء على هوية الأغنية السورية، ولا يمكن أن نلقي اللوم عليهم وحدهم لأن الإدارة أيضاً معنية، وهي في واقع الحال لا تتابع البرامج التي على البث المباشر، ويُفترض أن يكون المشرف العام قد تسلّم ورقة من الإدارة عليها قائمة بالأغاني التي عليه أن يقوم ببثها على الهواء خلال البرنامج أو أن يرجع للإدارة باختيار الأغاني وهذا بالتالي من أجل حماية هوية الأغنية السورية والسعي إلى نشرها قدر المستطاع.

إذاً تعاني الأغنية السورية من تجاهل وتهميش الإذاعات لها وخاصة إذاعة دمشق؟
تجاهل الأغنية السورية وعدم بثها في الأوقات المناسبة والبرامج المناسبة، هو بحد ذاته هجوم على الأغنية السورية وعلى تراثها وعلى طربها وأصالتها وعلى كل ألوانها، فبالعودة لفترة الخمسينيات كل الناس كانوا يرددون أغاني نجيب السراج وكذلك الأمر بالنسبة إلى أغاني رفيق شكري، واستمر الجمهور يستمع إلى هذه الأغاني حتى سنة التسعين التي فيها هجم فيروس اللامبالاة، وتهميش أغانينا التي تربينا عليها ما انعكس سلبا على الأغنية السورية.

وفي فترة التسعينيات انتشر أيضاً الفيديو كليب الذي يفترض أن يساهم بنشر الأغنية عموما؟
ما يغفله الكل أنه حتى الأغاني القديمة التي كانت أغاني الأبيض والأسود، كانت على شكل الفيديو كليب سواء كانت لصباح وعبد الحليم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وشادية وليلى مراد وغيرهم من العمالقة، وكانت هذه الأغاني تخدم سيناريو الفيلم وتحكي قصة، وهي بالفعل كانت كفيلم قصير، ولكن بالنسبة إلى الفيديو كليب الذي درج في التسعينيات، محمد عبد الوهاب قال عنه: «من هذا المخرب الذي وافق على تخريب الأغنية؟»، ومات عبد الوهاب وهو يسأل هذا السؤال، ولكن هنا لا بد من الإشارة والتأكيد أنه إلى غاية الآن لم تستطع هذه الموجة من المس أو القدرة على تخريب النغم الشرقي أو توقيفه وما زلنا نطرب شجناً لسماعه، وعليّ هنا أن أتذكر الأخوين رحباني اللذين تبنيا فيروز فأصبحوا ثلاثياً، فهم وقفوا على أسس تطوير الأغنية باحترام وأغانيهم كانت وما زالت تحمل لغة جديدة في الكلام وفي الموسيقا، وبدلا من أن يذهبوا إلى مصر أحضروا مصر إلى لبنان.

إذاً كان من غير الممكن فصل فيروز عن الرحابنة؟
صحيح… لأنهم كانوا ثلاثياً مكتملاً وبغياب أي عنصر منهم كان سيفشلون، وفيروز كانت فشلت من دون الرحابنة، بعكس صباح أو وديع الصافي الذين نجحوا واستمروا من غيرهم، وهنا ما أريد توضيحه أن للأغنية سفيراً، ويجب أن يتمتع بعناصر مثل الصوت والطلة والثقافة الموسيقية، وفيروز هي السفير وكذلك كانت نجاة وصباح وعبد الوهاب وغيرهم الكثيرون، ونحن في سورية كان عندنا نجيب السراج ورفيق شكري، وهذا يدل أن في الحياة دائماً هناك أملاً والذين يسعون إلى تحطيم هذا الأمل هم أشخاص لا يمكنني أن أصفهم بالجهلة أو غيره، لكنني يمكن أن أسميهم عديمي المسؤولية تُجاه الأغنية السورية. مثلا صباح فخري هو سفير أيضاً وكان يوجه رسالة مهمة للأغنية السورية.

….. ولا يمكن أن يكون المرء سفيرا للأغنية إلا إذا كانت أغانيه مؤثرة في الجمهور إلى أبعد مدى؟
هذا صحيح… فالأغنية القريبة من الجمهور هي التي تبقى مهما طال الزمن وهي التي تؤثر فيه وعليه في الوقت ذاته، وهنا أريد أن أذكر أن الرئيس حافظ الأسد كان يحترم الأغنية السورية جداً ويقدرها ويهتم بها معتبراً إياها سلاحا مؤثرا في الناس، وكذلك الحال بالنسبة إلى الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان يهتم أيضاً بالأغنية ويراها أقوى من خطابه الذي كان يعمل عليه بالساعات، واليوم وللأسف الشديد ما تعانية الأغنية السورية هو مؤامرة، ويؤسفني أن أقول إنها مؤامرة.

في زمنكم زمن العمالقة كنتم معطائين جداً ولم تفكروا بالمقابل المادي، كان همكم ومسعاكم هو إثبات الذات وتحدي الصعاب لتحقيق الحلم… هل يمكننا القول إن أحد أسباب تراجع الأغنية السورية هو السعي وراء الربح المادي؟
لا…. ليس السعي وراء الأموال والمادة فقط، بل الخطأ يقع على أصحاب القرار من مديري المؤسسات الإعلامية، وأيضاً على الفنان نفسه والذي يقوم بدوره باختيارات تعبر عن هشاشة ثقافته الموسيقية، وطبعا الماضي يطوى وأرشيف الأغاني يمكنني القول إن فوقه الغبار من قلة الاستعمال، وللأسف حتى لو تذكروا وضع أغنية ليس هناك من تعريف لمناسبتها أو من ألفها ولحنها وهذا كلّه يؤثر في ثقافة الأجيال القادمة الموسيقية، أقول هذا من عتبي وألمي، فللأسف حراس الأغنية السورية كلّهم ذهبوا وكلهم كانوا يدافعون عن الأغنية السورية وكنا نحمل رايتها، واليوم أنا آخر حراس الأغنية السورية ولا أستطيع وحدي أن أدافع عنها في ظل ما تواجهه من تحديات تسويقية وانحدارات أخلاقية فنية ولغوية.

اليوم هناك العديد من التجارب بإعادة توزيع الأغاني الطربية والتراثية القديمة بطريقة حديثة مع إدخال آلات موسيقية إليها ولو كانت غربية وذلك من أجل استقطاب الشبان… هل هذا أمر خاطئ؟
لا.. بل هذا سؤال مهم، يمكنني هنا أن أذكر سيد درويش لأنه كان دائماً يسعى إلى تطوير الأغنية وإدخال الآلات الغربية وتأثر به عبد الوهاب كثيراً وتعرض الأخير للهجوم والانتقاد من الأشخاص الوصوليين، وأيضاً بليغ حمدي دخل إلى التراث وعمل «أسمراني اللون» وغنتها شادية وأيضاً عمل أغنية «قولوا لعين الشمس ما تحماشي» ما أظهر شادية بطريقة جديدة واستمر الهجوم والانتقاد، وبالنسبة لي بوقتها كنت في موقع بين سورية ولبنان ومن خلاله كنت قادرا أن أقدم أغاني تراثية فغنى صباح فخري أغنية «ميلي يا مال الهواء» وأغنية «يا مال الشام» في فيلم الصعاليك بطولة دريد لحام ونهاد قلعي ومريم فخر الدين وكان صباح فخري ضيفا، ثم قدمنا أغنية «يا طيرة طيرة يا حمامة» وغنتها شادية وهوجمنا بشدة، ولكن في النهاية تبين أننا محقون، وأعود هنا إلى سؤالك أنه هل يجوز إعادة توزيع الأغنية… فأقول لك.. نعم يجوز ولكن على من يقوم بأمر كهذا أن يكون ملماً بالموسيقا وتراثها وأصالتها حتى لا يغير من جوهرها أو يسيء إليها وأن يكون الملحن موهوباً ومثقفاً أدبياً ومدركاً للمعنى فهذا أمور مطلوبة من المغني وإن قلّد الأغنية أو أراد إعادة توزيعها، ولا يجوز أن يكون هناك حتى خطأ في مخارج الحروف كما حصل في أغنية «سورية يا حبيبتي» عندما تم تسجيلها من جديد وبأصوات شابة جديدة، فالمغني لم تكن مخارج حروفه واضحة بحجة أنه كان يطرّب، كما أن هناك وقاحة منتشرة بشكل واضح بين من يسعون للغناء بأنهم يريدون أن يغنوا للعمالقة فكيف هذا والمغنية الشابة أو المغني لا يملكان أدنى المقومات الموسيقية والصوتية المتميزة، والتي بالطبع تميز صوت العمالقة الذين يريدون الاحتذاء بهم، أو تتمتع بالمقامات الموسيقية المناسبة، يعني أنها تغتال من الذكريات والأصالة والثقافة، وهنا أنصح كل من يقع بهذا المطب إذا كانوا يطمحون للغناء أن يقوموا بغناء ما يناسب أصواتهم وألا يعلّوا السقف لأنهم سيشوهون الأغاني وإلى الفشل.

على سيرة الفشل… هل قدمت أغنية أو لحنا ما وشعرت بأنك فشلت وندمت على لحنك واختيارك؟
كان همي هو الفشل وما يحمله من ألم، والفشل في الوقت نفسه، وبالنسبة لي، هو درس أعبر من خلاله إلى النجاح وصحيح أن الأخير هو فرح وسعادة إلا أنه مسؤولية كبيرة والحفاظ عليه مسؤولية أكبر، ومرة كنت لحنت أغنية ألفها عيسى أيوب وهي للأسرة وتخص الزوج والزوجة وفشلت هذه الأغنية في سورية ولكنها لاقت نجاحا كبيراً في الدول العربية.

هل تقرأ الصحف وتتابعها؟
صحيفة «الوطن» مميزة وكذلك صحيفة تشرين، ربما لأن الأخيرة تديرها امرأة، والمرأة تتمتع بذوق خاص وفيها شيء لا نملكه نحن الرجال بأسلوبها وبقراراتها وفي المرأة الحضارة، أنا أجد الصحافة اللبنانية متطورة عنا ومميزة، رغم تميز صحيفة الوطن وجماهيريتها، عندهم الصحافة ليس فيها روتين، والصحافة فيها فن ويتم الاهتمام بالصحافة كثيراً حتى بالدعم المادي وأتمنى من إعلامنا أن يتطور أكثر، وصحيح أن الإعلام السوري في الوقت الحالي استطاع مواجهة الإعلام الخارجي المتطور عنا إلا أنه بحاجة إلى الرعاية الاهتمام وهذا الكلام من قلب محب وكلام رجل عاقل.

كملحن… أنت لست من الملحنين الذين ينتظرون وحي اللحن؟
لا أنتظر وحي اللحن أبدا، فأينما كنت أو توجهت دائماً فإن معي آلة التسجيل ولو كنت أقود السيارة، وعندما تأتي على بالي الجملة الموسيقية أسجلها، وفي اليوم التالي لا أسمعها أبدا وإذا لم أتذكرها من تلقاء نفسي كنت أعتبر الجملة المسجلة غير جيدة، فأنا أغامر بهذا الموضوع وأجد أن اللحن العميق يبقى بالذاكرة ولا حاجة لاستذكاره.
شهادات عمالقة وسيرة حياة تجدونها في الجزء الثاني من لقاء الملحن سهيل عرفة.

Exit mobile version