Site icon صحيفة الوطن

هدنة الإشارات السياسية

| مازن بلال 

لم يصل الاتفاق الروسي الأميركي إلى مجلس الأمن رغم محاولات «الكرملين» إضفاء شرعية دولية على بنوده، وبقيت تفاصيله حبيسة داخل التلميحات الروسية بأن واشنطن لا تريد نشر ما تم التوافق عليه، فما حدث في جنيف لم يكن هدنة فقط بل هو تثبيت لمفاهيم روسية أميركية بشأن «فض النزاعات»، ومن جانب آخر يبدو النموذج السوري منطقة تبادل الاختبارات التي ستوضح في النهاية القدرة على وضع تصورات لنظام دولي تكون روسيا «شريكاً» كاملاً في إقراره.
عملياً فإن الهدنة الهشة التي بدأت في 12 من هذا الشهر تم خرقها مراراً، على حين يصر وزير الخارجية الأميركي جون كيري على أن «العنف انخفض»، ويتم تمديد الهدنة من دون مؤشر واضح على بوادر حقيقية لعمل سياسي مختلف للاستفادة من تبريد المعارك، فهناك على مساحة رمادية مقصودة وضعتها موسكو وواشنطن للتعامل مع قدرة دول المنطقة على اختراق التوافق الدولي، فالمشهد كما يبدو بعد أيام على سريان الاتفاق الأميركي الروسي يشير إلى أمرين:
– الأول عدم رغبة الولايات المتحدة في إدخال ما تم التوصل إليه مع روسيا إلى مجال يثبت قواعد «الاشتباك الدولي» مستقبلاً، فهي فقط معنية بالمباحثات بشأن سورية؛ في وقت تريد موسكو استخدام مباحثات جنيف كي تصبح «عملية سياسية» تشمل العديد من الأزمات والخلافات بين واشنطن وموسكو.
المسألة الجوهرية هنا أن إبعاد معظم الشركاء الدوليين هو أمر لا يبدو مريحا بالنسبة لروسيا، فهو لن يساعد على استعادة حيوية النظام الدولي في مواجهة الإرهاب بالدرجة الأولى، ومسائل التطرف عموماً سواء في أوروبا أو في بقية أنحاء العالم، فروسيا تريد بناء «سياق دولي» في مسألة محاربة الإرهاب؛ ما يعني عملياً شراكة فاعلة ليس مع الولايات المتحدة فقط بل أيضاً مع باقي الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، في حين يبدو التردد الأميركي في هذا الموضوع «ملتبسا» لأنه لا يريد نقل مسألة «الشراكة الروسية» في النظام الدولي القادم إلى أوروبا بل حصرها في الجناح الأطلسي تحديدا.
– الثاني مرتبط بنوعية الأزمة السورية، لأنها في العديد من الأمور تبدو ترتيبا إقليميا أكثر منه دولياً من وجهة نظر واشنطن، فداخل الحرب الدائرة يكسر الإرهاب القواعد والحدود السياسية، ويستهلك السيادة والأدوار لكل دولة، وهو ربما يغير من مفهوم الأمن في الشرق الأوسط ما يساعد واشنطن على وضع تصوراتها الخاصة بمنظومة جديدة للشرق الأوسط.
لا ترى موسكو «الإرهاب» بالمقاربة الأميركية نفسها، فهي تعرف من خلال حربي الشيشان الأولى والثانية التأثيرات العميقة التي يحدثها الإرهاب في أمنها، وهي ترى الصورة في الشرق الأوسط نموذجاً لصراعات قادمة لا يمكن محاصرتها بشكل تقليدي، والاتفاق الروسي الأميركي الأخير يوضح مدى قلق الكرملين من عدم القدرة على محاصرة الإرهاب، وتركه ليغير من الجغرافية – السياسية للمنطقة، والأكثر من ذلك دفعه نحو منطقة ملتبسة يصعب فيها محاربته لأنه يصبح منطقة اشتباك إقليمي ودولي.
الهدنة التي أًُقرت في سورية ربما تنهار مراراً، وفي كل خرق أو انهيار تبادل للرسائل بين موسكو وواشنطن، فالمجموعات المسلحة على الأرض السورية هي امتداد نفوذ إقليمي، والتعامل مع خروقاتها هو أيضاً رسم المجال لدول المنطقة في النظام الدولي القادم، وهو ما يجعل الهدنة عنوانا سياسيا أكثر منها شأنا عسكريا، ويفرض في الوقت نفسه شرطاً سياسياً على الجميع يتعلق أولا وأخير بضرورة الاستعداد لمنظومة شرق أوسطية جديدة كلياً.

Exit mobile version