Site icon صحيفة الوطن

قضية للنقاش – أيها الاقتصاديون: كيف نشجع الصادرات؟

قررت الحكومة الاعتماد على سياسة تشجيع الصادرات لدفع عجلة الاقتصاد، وانتشاله من مأزق الكساد، الناجم عن ظروف الحرب، وقد بدأت بالفعل الدراسات النظرية الجدية لإعداد إستراتيجية وطنية للتصدير، وتنفيذها بأسرع وقت ممكن. ولعل أكثر ما يجذب الحكومة نحو هذا التوجه هو انخفاض قيمة العملة المحلية، الذي يمنح الصادرات السورية ميزة تنافسية سعرية في الأسواق الخارجية، ما يمكّن الحكومة من تجاوز حرج تخفيض سعر الصرف المتعمد عند إقرار سياسة تشجيع الصادرات، وهو المشكلة الأساسية التي تعترض أي دولة تقرر اعتماد هذه السياسة.
ولا تنسى الحكومة أن تشجيع الصادرات يعني تأمين مصدر مهم للقطع الأجنبي، وتوسيع دائرة الإنتاج والتشغيل، وهذا يعني حلاً تدريجياً لمشكلة البطالة وتحسين معدلات نمو الناتج المحلي، وتقليص العجز التجاري وتخفيف الضغط على الليرة السورية، وزيادة في واردات الدولة من الضرائب والرسوم من العملية الإنتاجية.. كل ذلك يجعل موضوع اعتماد سياسة التصدير لدعم الاقتصاد محسوماً بشكل نهائي.
لكن توقف البحث عند هذه «المغريات» لاعتماد هذه السياسة فيه الكثير من العجلة، وقد يحمل مخاطر جديدة، الاقتصاد بغنى عنها، بل يمثل هذا القرار سباحة بعكس التيار الاقتصادي الراهن بشروطه، وهذا أمر خطير. لذا حري بنا لفت انتباه الحكومة إلى بعض التحديات والمتطلبات الأساسية لنجاح سياسة تشجيع الصادرات، والتي لا تقل أهمية عن تخفيض قيمة العملة المحلية، وربما من الصعب توافرها، أو وجود قدرة على تحمل تكلفتها في ظل المسار الاقتصادي الراهن.

التصدير.. تحديات خطيرة

في البداية، من الخطأ النظر إلى انخفاض قيمة العملة المحلية بمعزل عن معدّل التضخم، في موضوع التصدير، إذ إن ارتفاع معدل التضخم في سورية على معدل انخفاض قيمة الليرة (الأمر القائم منذ خمس سنوات تقريباً) يعرّض أرباح الصادرات للتآكل، بسبب الزيادة في تكاليف الإنتاج.
من جانب آخر، يتطلب نجاح سياسة تشجيع الصادرات؛ سياسات أجور وأسعار فائدة تشجع على الإنتاج واستخدام العمل، أي المنتج يحتاج تمويلاً سلساً بأسعار فائدة متدنية، قياساً إلى معدل التضخم، وهذا أمر صعب أن يتحقق في ظل الظروف الراهنة، أو في المستقبل القريب، لأن أسعار الفائدة في المصارف مرتبطة بمعدل التضخم، ولا يمكنها الإقراض بأسعار فائدة منخفضة، لأن خسارتها ستكون مؤكدة، كما لا يمكن للدولة تحمّل كلفة التمويل بأسعار فائدة منخفضة، لأنها ستؤثر في القطاع المصرفي ككل، وتجعله خاسراً.
نظرياً، يؤدي إلى كسر الودائع، لأن انخفاض سعر الفائدة على الإقراض، سيلحقه تخفيض سعر الفائدة على الودائع، وهذا لم يعجب المودعين أبداً، إلا إذا قرر المصرف العمل بخسارة، وهذا غير وارد أبداً.
وفيما يخص الأجور، يفضل المنتج – بل يسعى- لأن تكون منخفضة، وبالتالي ضعيفة القدرة الشرائية، لأنه يريد ضبط تكاليف إنتاجه لمصلحة الربح المحفز على استمرارية إنتاجه، والبيع بسعر تنافسي في الأسواق الخارجية. وهذا يخالف الاتجاه المطلوب، بتعزيز القدرة الشرائية للعامل.
ولكن، قد يكون ضغط هذا الجانب أقل من غيره، إذا نظرنا إلى الموضوع من زاوية زيادة دخل الأسرة عبر زيادة عدد الأفراد العاملين فيها، بتجميع الدخول، بدلاً من زيادة الأجر، ولكن تبقى القدرة الشرائية للدخل منخفضة.
هذا ويشترط نجاح سياسة تشجيع التصدير بقدرة الحكومة على التعديل المستمر لسعر الصرف والجمارك والإعانات للمحافظة على سعر صرف مناسب للصادرات ومنع معدل الواردات من الارتفاع على معدل الصادرات، وهنا نجد صعوبات تتعلق بقدرات الحكومة على التحكم بسعر الصرف بشكل مستمر، والأهم من ذلك وجود عجز تجاري كبير. وما دام الهدف هو رفع رقم الصادرات، والتوجه بالإنتاج نحو الخارج بدلاً من الداخل، فسوف تبقى أرقام الواردات في ازدياد مطّرد أيضاً، وهذا يعني تضخماً في أرقام الواردات والصادرات والعجز.. ما يعني مزيداً من الانخفاض في قيمة العملة، وتضخماً أكبر، وهذا يعرض التصدير لخسارة أكبر.

سياسة بديلة

في النتيجة، يرتبط نجاح سياسة تشجيع الصادرات على السياق الاقتصادي للبلد، بتوافر الشروط الكفيلة بنجاحه. والسياق الاقتصادي اليوم، يقول إن تشجيع الصادرات أمر لابد منه، ولكن في مرحلة اقتصادية لاحقة، أما السياسة التي تتناسب مع الشروط الاقتصادية الحالية، وقدرة الحكومة على تحمل التكاليف، فهي إحلال المستوردات، أي توجيه الإنتاج نحو الداخل، ومن ثم الانتقال التدريجي إلى تشجيع الصادرات بعد توافر شروط نجاحه.
والبداية من ربح المنتج المضمون والمغري المحفز للإنتاج، فأسعار المستوردات المرتفعة، تجعل صناعة تلك السلع مربحة -وهنا نتحدث عن السلع الاستهلاكية- كما أن قيم المستوردات الحالية من تلك السلع تضمن وجود طلب داخلي عليها، أي إن السوق الداخلي مؤمن. وهذا يعني تشغيلاً وتوظيفاً في الاقتصاد، وبالتالي زيادة في الطلب على الاستهلاك والإنتاج.
كما أن بيع المنتج داخلياً يوفر تكاليف الشحن إلى الخارج والرسوم والجمارك والتخليص.. التي تدخل في حساب السعر، وهذا يعطي المنتج مرونة في التسعير ويمكنه قبول سياسة أجور مرتفعة نسبياً (أو متماشية مع معدل التضخم نسبياً)، إضافة إلى تمويل يتناسب أيضاً مع مستويات التضخم في البلد.
والأهم من ذلك أن إحلال المستوردات يعني تقليص رقم الواردات، ومعه الصادرات، في البداية، لكن زيادة الإنتاج، سيخلق فوائض تصديرية حتماً، ما يمكّن الحكومة من تحقيق شرط انخفاض الواردات عن الصادرات، وجعلها قادرة على التحكم بشكل قابل للاستدامة بسعر الصرف المتحيز للتصدير، لتهيئة الظروف الضامنة لنجاح سياسة تشجيع التصدير، أو التوفيق بين السياستين.
طبعاً هناك تكاليف لسياسة إحلال الواردات، وتحديات متعلقة بمبدأ المعاملة بالمثل، وتدهور العلاقات التجارية مع بعض الشركاء، والخلافات بين الصناعيين والمستوردين.. وغيرها، إلا أنها تبدو الخيار الأقل كلفة على الحكومة، والأكثر عائدية، في ظل ركود وحرب، ويكفي أنها تمثل سباحة مع تيار الاقتصاد الراهن، وليس عكسه.. وهناك أمثلة ناجحة في هذا السياق، كدول أميركا اللاتينية كالبرازيل، وتبعتها دول أخرى كالهند التي بدأت بإحلال المستوردات وانتقلت إلى غزو الأسواق العالمية بسياسة تصديرية مؤثرة في النمو الاقتصادي بشكل أساسي.

تبقى هذه وجهة نظر حول سياسة تشجيع الصادرات وإحلال الواردات، وبالتأكيد هناك أفكار ووجهات نظر أخرى، تتفق مع ما ورد، أو تختلف معه، لكنها بالتأكيد سوف تغني الموضوع، وتجعله أكثر وضوحاً، عبر الحوار الاقتصادي العلمي والبناء.
المحرر الاقتصادي

Exit mobile version