Site icon صحيفة الوطن

أردوغان إلى الواجهة مرة أخرى

| عبد المنعم علي عيسى 

قد تشكل تطورات الحالة الأردوغانية الأخيرة سبباً كافياً لإثارة الشكوك المثارة مثلاً تجاه نيات هذا الأخير على الرغم من الجهود التي بذلها لتصحيح تلك الصورة التي ظهر عليها منذ أن انطلقت رياح الربيع العربي مطلع العام 2011.
أطاح أردوغان بأستاذه –ومنظره- أحمد داوود أوغلو في نيسان من العام 2016 ليأتي رئيس وزراء تنفيذي قال إن مهمته الكبرى هي في إصلاح ما دمرته سياسات سلفه ولربما ساعدت كاريزما بن علي يلدريم الشخصية في تسويق أزياء أردوغان لربيع وصيف لعام 2016 إلا أنه فشل بالتأكيد في القيام بتلك المهمة لموسم خريف 2016 لاعتبارات ليس من بينها انخفاض قدراته التسويقية، ففي أتون المحاولات التركية المستميتة لكسر القطيعة مع موسكو نجح أردوغان في حصوله على ما يريد في قمة سان بطرسبورغ 9/8/2016 التي ذهب فيها إلى الاعتراف بأن الطائرة الروسية قد أسقطت 24/11/2015 فوق الأجواء السورية، إرضاء لموسكو، وهو بالتأكيد كان مستعداً للذهاب نحو أي اعتراف يمكن له أن يؤدي إلى فتح أبواب الكرملين على مصاريعها بوجهه، إلا أن ذلك النجاح كان مشروطاً بأمور عدة ليس من الصعب استكشافها أو تخمينها ولربما اتضحت هذه الأخيرة أكثر من مرة خلال الزيارة التي قام بها الرئيس الروسي إلى أنقرة مؤخراً 10/10/2016 وفيها ذكّر القيصر مستضيفه بأن شروط (المغفرة) الروسية تبدو وكأنها اهتزت ولا بديل من بذل الجهود الحثيثة لإعادتها من جديد إلى التوازن المطلوب في إشارة إلى محاولات الاندفاع التركية نحو العمق السوري بدرجة أكبر مما تقتضيه الأهداف المعلنة.
نجح أردوغان على مدار ستة أشهر أن يظهر نفسه أنه عامل استقرار إقليمي إلا أن الطبع غلاب كما يقال والمرء مهما حاول الظهور بمظهر مغاير لما في أعماقه فإنه سرعان ما تطفو نياته على السطح في مفاصل عدة بعضها اضطراري وبعضها الآخر عفوي، وفي هذا السياق يمكن أن نلحظ العديد من المحطات التي طغا فيها العمق الأردوغاني ولعل أبرزها كان في خطابه الذي ألقاه 29/9/2016 الذي قال فيه «إن معاهدة لوزان هي هزيمة لتركيا وليست نصراً لها»، وهو تصريح مهم يمثل انقلاباً على الأتاتوركية بل على مئة عام من التاريخ التركي الذي اختزنت الذاكرة التركية فيه تلك الاتفاقية التي رسمت حدود تركيا الحالية على أنها نصر تاريخي وبداية لانخراط الأتراك في المجتمع الدولي بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى.
وللإيضاح نقول إن الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى كانوا قد وقعوا فيما بينهم اتفاقية سيفر (عام 1920) التي أقرت بوجوب قيام دولة كردية في المنطقة إلا أن أتاتورك كان قد اعتبر تلك الاتفاقية بمنزلة قرار دولي بإعدام تركيا، ولذا فقد عمد إلى حشد الطاقات التركية التي مكنته من تحقيق سلسلة انتصارات عسكرية اضطرت الموقعين على معاهدة سيفر إلى القبول بالأمر الواقع ثم إلى توقيع معاهدة لوزان 1923 مع أتاتورك التي كانت أبرز معالمها هي تخلي موقعيها عن وعد إقامة دولة كردية في المنطقة، والسؤال المهم هنا هو: لماذا يريد أردوغان إحداث انقلاب كبير في الذاكرة الجماعية التركية من شأنه أن يعيد موقع اتفاقية لوزان فيها؟
التزامن مع الإعلان عن اتفاقية سيفر أصدرت أنقرة «ميثاقاً مللياً» في العام 1920 مرفقاً بخريطة تضم إليها كلاً من الشمال السوري وفي العمق منه حلب وجزءاً من الشمال العراقي الذي يحوي مدينة الموصل، إلا أن التوصل إلى توقيع اتفاق لوزان فيما بعد كان قد أدى إلى نسف اتفاقية سيفر ومعها الميثاق المللي في مقابل إقرار اتفاقية لوزان التي اعتبرها أردوغان هزيمة وليست نصراً.
لم تتوقف المظاهر التي تكشف أعماق أردوغان عند هذا الحد فقد تلا ذلك التصريح الأخير بعد عدة أيام تصريح آخر له الكثير من الدلالات كان موجهاً إلى رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الذي خاطبه أردوغان قائلاً: «أنت لست نظيري، وعليك أن تعلم أننا سنفعل ما نريد أن نفعله» 12/10/2016.
للتذكير نقول إن حيدر العبادي كان قد شن هجوماً شرساً (والأهم أنه متواصل) ضد الوجود العسكري التركي في بعشيقة والذي كان سرياً قبيل أن يفتضح أمره ليستغيث أردوغان بالحكومة العراقية ومن بعدها بمسعود البرازاني لتغطية ذلك الوجود، الأمر الذي رفضه الاثنان معاً وهو ما شكل إحراجاً كبيراً للمستغيث أخرجه عن طوره ليظهر في صورة الخارج عن جميع الأعراف والتقاليد الدبلوماسية وخصوصاً أن حكومة العبادي كانت قد أتقنت خوض الحرب السياسية في المحافل الدولية ضد الوجود العسكري التركي وفيها استطاعت تحقيق مكاسب عدة منها إدانة مجلس الأمن لذلك الوجود وأهمها التأييد الأميركي لمطالب الحكومة العراقية بإنهاء ذلك الوجود.
هذه هي طبائع القوة (أي قوة) إذا ما هزمت في تحقيق هدف ما فإنها لا تنفك تحاول أن تفعل ذلك لكن بطرق أخرى مختلفة وتركيا اليوم قوة إقليمية كبرى وهي إلى حد ما مستقرة نسبياً (وإن كان ذلك بقرار أميركي)، ولذا فإن حالة الاضطراب والفوضى التي تعم الجوارين السوري والعراقي كفيلة بإغراء أو إحياء المطامع التركية، وعليه فإن أردوغان مهما تلون أو مهما (اغتسل) فستبقى مطامعه مشروعة بالنسبة إليه ما بقيت الحالتان السورية والعراقية على ما هما عليه الآن.
وسيبقى لسان حال أردوغان يقول إن المتغيرات الكبرى لا تفرضها سوى الحروب الكبرى التي تؤدي إلى حدوث انهيارات وتساقط للأنظمة القائمة وعندها فقط يمكن للمرء الاندفاع نحو ما تضمره أعماقه الدفينة.
مستقبل أردوغان –ومعه مشروعه- السياسي سوف يتحدد عبر معركة الموصل وليس في العملية العسكرية التي يخوضها في سورية إذ لطالما كانت هذه الأخيرة هدفاً دائماً لجميع الأنظمة التركية المتعاقبة، وفيما يخص الأيديولوجيا التي ينهل منها أردوغان نجد عبد الله غل وزير الخارجية التركي 2004 (ثم رئيس تركيا فيما بعد) يقول في أعقاب الغزو الأميركي للعراق: «إذا تم تقسيم العراق فإن لتركيا حقوقاً فيه» في إشارة واضحة للموصل وعلى هذه الأرضية الأخيرة يمكن لنا فهم كل هذا السعار الذي يظهره أردوغان في أكثر من اتجاه فهو يضع «فيتو» على مشاركة قوات الحشد الشعبي العراقية في معركة تحرير الموصل بذريعة أن تلك المشاركة من شأنها أن تؤدي إلى تغيير هوية الموصل الديمغرافية، ويضع فيتو أيضاً (لكن مستتر) على أي مشاركة أميركية برية في تلك المعركة لإيمانه بأن تلك المشاركة لن تكون في مصلحة المشروع الذي يبتغيه ويسعى إليه، وفي الآن ذاته يصر على مشاركة القوات التركية في معركة الموصل كمن يريد أن يقول إن مشاركة هذه الأخيرة (القوات التركية) في تحرير الموصل هو واجب عليها، على حين أن مشاركة الحشد الشعبي ليست كذلك، وهذه محاولة خطرة لإطلاق تراصفات مذهبية في المنطقة تمهيداً لإطلاق صراع مذهبي يمكن أن يحقق الأماني التي عجزت السياسات والقوة العسكرية عن تحقيقها، والأخطر في الموضوع أن أردوغان في توجهه ذاك يلقى قبولاً ودعماً خليجيين ولربما كان اجتماع مجلس وزراء دول الخليج الأخير في الرياض 13/10/2016 بحضور مولود جاويش أوغلو يصب في هذا الاتجاه وما يدعم هذه الفرضية الأخيرة تصريحات عادل الجبير 14/10/2016 التي حاول فيها وضع فيتو مذهبي على الفصائل المشاركة في معركة تحرير الموصل التي انطلقت على مايبدو وفيها ستكون أدنى مشاركة تركية بمنزلة كارثة لها تداعيات خطرة وبعيدة الأثر، على حين أن نجاح الحكومة العراقية في إبعادها سيمثل ضربة قاصمة للمشروع الأردوغاني إلا أن ذلك كله يجب ألا ينسي العراق المعركة الأهم ضد الوجود العسكري التركي في بعشيقة، وهي معركة رابحة بالتأكيد شريطة متابعتها بزخم لا يستكين.

Exit mobile version