Site icon صحيفة الوطن

الشتات الثقافي وأزمنة التوهان … طيبون لا يعرفون أنهم يعتاشون من المشكلات

| أحمد محمد السّح

تشتت اهتمامات المثقف العربي اليوم، حيث أصبحت ظاهرة التشتت هي السمة الأبرز على الساحة الثقافية، لا بل إن هذه الظاهرة تعمقت وتجذرت بعد الانتكاسات التي تعرضت لها النهضة العربية، التي ابتدأت في نهايات القرن التاسع عشر، وتوقف تبلورها أوائل القرن العشرين لأسباب عديدة، فوصلت اليوم حالة التشتت والتشعب في ميادين مختلفة لاهتمامات المثقف بين السياسة والأدب والفن والمجتمع، لتنعكس في تشعّب اهتمامات الأديب العربي بين شعرٍ وقصة ومسرح ومقالة وبحث.
تدل هذه الظاهرة على الحِمل الكبير الملقى على عاتق المثقف العربي، مقصوم الظهر أصلاً، لتتعدد المشكلات المطروحة أمامه وتبقى موزعةً من دون حل، فيظل هذا الإنسان- المبتلى بالثقافة- متخبطاً في دوامة البحث عن حلٍّ لنفسه قبل المجتمع ليتخذ موقفاً من سلسلة الانهيارات والانقسامات المتوالية، التي تعرضها الأيام عليه.
متضخمة ومتزايدة

تتصف المشكلات في العالم العربي بأنها مشكلات متضخمة ومتزايدة حتى إن حلولها المطروحة تفرّخ المشكلات، وكلما ازدادت الأيدي التي تعالجها ازدادت الحرائق التي تشتعل في الجسم الإنساني الحضاري العربي، على الرغم من أن جميع شعوب العالم ودوله لديها مشكلات من دون استثناء، وتتنوع هذه المشكلات بين اقتصادية واجتماعية وثقافية وتنموية وغيره، لكن المشكلات المرصودة في العالم العربي باتت مشكلات متنوعة ومتداخلة مرتبطة بجذورها التاريخية وبالمطبات التي أضيفت إلى طرق الحلول المقدمة لتتحول إلى بنى ونظم وقوانين موجودة، لا بل تعدى الأمر ذلك، لقد تجسدت هذه المشكلات واستحالت إلى أرواح بيننا وإلى معيشة أفراد يأكلون ويشربون من هذه المشكلات، ولربما كانوا طيبين لا يعرفون أنهم يعتاشون من هذه المشكلات، ولتبسيط الفكرة، كم أسرة عربية اليوم تعيش الارتزاق الحزبي أو الديني ذي الأيديولوجية المنخورة والمسوسة؟ لذلك حقّ القول إن: كل مشكلاتنا هي مشكلات من نوع نفنى ولا تفنى.

هل يغمض عينيه؟
ومن جانب المثقف العربي أو الأديب بشكل متخصص كيف لا يستطيع أن تعرض عليه القضية الأولى قضية فلسطين، هل يمكن أن يتجاهل انحناءات وانحرافات وتغيرات هذه القضية، ويغمض جفنه عن عذابات شعب بأكمله، كأن هذه الحقوق يوماً لم تكن؟ أليست هذه القضية الكبرى التي لم تجد حلاً إنسانياً يليق بالقيمة الحضارية الكبرى كانت انتكاسةً هزت وجدان الإنسان العربي ككل، والمثقف العربي بشكل خاص لا بل جعلت صوته خافتاً منخفضاً غير قادر على أن يجيب عن الأسئلة التي يطرحها هو على نفسه قبل أن يطرحها عليه ضمير الشعب، وجمهور القراء.
انكسارات وانكسارات اللغة!

هل يتجاهل المثقف العربي اليوم مشكلة الانكسارات التي تتعرض لها اللغة العربية بعد الفورات الرثة التي طرأت واستحالت إلى حالة مفروضة كادت موجة (التقعيد) في اللغة تصيبها ليصبح الخطأ صواباً بعد أن تصاغ له القاعدة النحوية أو الإملائية المناسبة، كيف نستطيع أن ننسى موجة «العربيزي» التي أنست الأجيال أحرف لغتهم، لتعود المشكلة إلى الواجهة مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي لتكشف عن جيل ولد في تسعينيات القرن الماضي وهو اليوم في زهرة أيامه لا يعرف أن الجيم حرف قمري، ولا يعرف أل التعريف أو همزة القطع أو همزة الوصل، وهو يعمل- هذا الجيل- في الصحافة والهندسة والطب والإذاعة وغيره من المجالات التنموية لا بل القيادية في المجتمعات.
وإذا أراد المثقف أن يعمم القاعدة ويبحث لنفسه عن ثوب ثقافي يلبسه حتى لا يبان عرياناً بين الأمم، فإذا به يقف أمم متاهة من الطرق، فإذا بالقوميات الكبرى تصبح موضة قديمة بعد انهيار النظرية القومية، وإذا انتقل إلى القوميات الصغرى والإثنيات المحلية فسيجد نفسه أمام تاريخ عملت القوميات الكبرى على طمسه وتحطيمه، وإذا حاول أن يكون شعبياً فسيكتشف أن الشعبية أصبحت شعبوية وأن الناس البسطاء انسلخوا عن مثقفيهم أو أن مثقفيهم انسلخوا عنهم، لتتعمق الحفر والوديان بينهم- أي المثقف والشعب- في لغة الخطاب، نتيجة القفزة الزمنية، لا هوة في المكان. وإذا ما اجتهد المثقف العربي ليتحول إلى حالة إنسانية فسيقع في سؤال كبير: هل من الممكن في هذا العالم المسيّس المؤدلج الممسوخ أن يوصل صوته إلى الإنسانية جمعاء، ضمن هذا الضجيج العالمي. أم إن المثقف العربي سيستمر في حالة الأخذ من ثقافة الآخرين من دون أن يفرز ثقافته إليهم. وما الجديد الذي سيقدمه، هل سيجتر من ماضيه؟ أم إنه سيعيد لهم فكرهم بعد أن ترجمه إلى لغة الخاصة!؟

تهويم وتوهان
المشكلة الكبرى، أو العيب الأكبر، ليست في حالة التشتت التي مررنا بها أو نعيشها، العيب الأساس هو الوصول إلى حالة التهويم أو الهميان، في حالة الفكر والثقافة، التي قد توصل المثقف نفسه إلى مرحلة اللاهوية واللاروح واللاقيمة، فلا يستطيع أن يتخذ موقفاً ثقافياً ينحاز فيه إلى عقل القارئ وإلى الثقافة الحقيقية بروحها الأم ونبلها، ولربما يضطر أن يدفع حياته ثمناً لذلك، مع أن التمني الدائم أن يكون زمن النهايات المأساوية كنهايات عبد الرحمن الكواكبي وابن رشد والحلاج، وخليل حاوي وغيرهم كثر، أن يتوقف من حياتنا وأن يعيش المثقف كريماً معافى في زمانه، وينهض بأبناء زمانه، فيخلد فكره، وينجو جسده.

Exit mobile version