Site icon صحيفة الوطن

قرب الجامع الأموي كان ويتصل روحاً به … قصر الخضراء في دمشق تحفة البناء … شيّد في بلاد الشام وكان شاهداً على حضارتها

| شمس الدين العجلاني

اعتاد العرب نصب الخيام في الصحراء والإقامة، على الرغم من وجود القصور في ممالك قبل الإسلام، كمملكة سبأ، وقد كان أمراً متاحاً ومتعارفاً عليه، كما أن الرسول في بداية دعوته اتخذ من دار الأرقم بن الأرقم مقراً للاجتماع مع أوائل المسلمين في مكة المكرمة، وكانوا يتعلمون أسس الإسلام، وتطور الأمر حتى أصبحت الدار مكاناً للعبادة ومقراً للتشريعات ومركزاً للقيادة حتى وفاة النبي.
مع اتساع الدولة الإسلامية بدأت تأخذ أبعاداً مغايرة من حيث التقسيم الإداري للدولة الناشئة، حيث استطاع الخليفة عمر بن الخطاب أن ينشئ الدواوين إضافة إلى هيئة مستقلة للقضاء ودار للحكم لفصل الحكم عن مكان العبادة، وما لبث أن ظل كما هو من دون أي تطوير في عهدي عثمان بن عفان وعلي بن أبى طالب، وخاصة أن هذه الفترة شابها الكثير من التوترات داخل الدولة الإسلامية نفسها التي انتهت بتولي معاوية بن أبى سفيان خلافة المسلمين في نهاية الأمر.

وبقدوم معاوية إلى الحكم تغيرت عدة مفاهيم داخل الدولة الإسلامية، إذ رفض الحكم من خلال مسجد أو من دار للحكم، بل أدار دولته من قصر «الخضراء» أول قصر في بلاد الشام، الذي شيده لنفسه ليدير من خلاله شؤون الحكم.
يعتبر قصر الخضراء من القصور الأموية في مدينة دمشق، بناه الخليفة معاوية بن أبي سفيان أيام ولايته على دمشق، كدار للإمارة، ولم يعرف لمعاوية بن أبي سفيان « من القصور إلا قصر الخضراء».
يقع القصر قبلي المسجد الأموي الكبير، وبنى فيه قبة خضراء فعرف القصر بعدها بهذا الاسم «قصر الخضراء» وسكنها معاوية أربعين سنة كما يقول ابن كثير. ولعل قصر معاوية أقيم على أنقاض قصر قديم، ويذكر ابن عساكر «أن الخضراء التي فيها معاوية من بناء أهل الجاهلية، من البناء القديم».

بناء القصر
ثمة رواية تاريخية وردت عند عدد كبير من أصحاب الشأن، تذكر أن معاوية بنى قصره في بادئ الأمر بالطوب والخشب، فلما فرغ منه، قدم عليه رسول ملك الروم، فنظر إليه، فقال معاوية: كيف ترى هذا البنيان، فقال: (أما أعلاه فللعصافير، وأما أسفله فللنار. قال: فنقضه معاوية وبناه من الحجارة، وأصبح قصر الحكم الأموي الأول).
يقع قصر الخضراء في المكان المحاذي لجدار الجامع الأموي من الجهة الجنوبية، وكان يتصل بحرم الجامع من خلال باب يطلق عليه اسم باب الخضراء، وهو إحدى الفتحات الثلاث لمعبد جوبيتر، وقيل أيضاً إنه باب السر لأن الخلفاء يدخلون منه إلى الجامع من دون أن يراهم أحد.
كما يعد قصر الخضراء أول قصر عربي شيد في بلاد الشام، ويصف ابن كثير القصر فيقول: (كان غاية الإحكام والإتقان وطيب الغناء ونزهة المجلس، وحسن النظر)، وتروي أخبار الأصفهانى أنه كان به حدائق ويطل على السهل المخصب ناحية الجنوب حتى جبل الشيخ، وكان يحتوي على كرسي الخلافة، وهو مربع الجوانب تستره الوسائد المطرزة الفخمة، وكانت تسكنه ميسون زوجة معاوية وأكثرهن حظوة لديه ولكنها عبرت عن حنينها المستمر للبادية بأبيات منسوبة إليها:
لبيت تخفق الأرواح فيه
أحب إلى من قصر منيفِ
ولبس عباءة وتقر عينى
أحب إلى من لبس الشفوفِ
حتى إن عمر بن الخطاب كتب إلى معاوية بن أبي سفيان مستنكراً ما أحاط معاوية به نفسه من عظمة فقال له: (أقيصرية يا معاوية)، وقد أخذ على معاوية أيضاً أنه أحدث في الجامع الأموي مقصورة هي الأولى في بناء الجوامع وجعلها مقاماً للصلاة خاصاً به.

القصر بعد معاوية
بقي قصر الخضراء قائماً يستعمله الخلفاء الأمويون من بعد وفاة معاوية، فلقد اشترى عبد الملك بن مروان هذا القصر من خالد بن يزيد بن معاوية، وجعله دار الإمارة، وكان الثمن (أربعين ألف دينار وأربع ضياع بأربعة أجناد من الشام) يقول ابن عساكر مؤرخ دمشق، إن عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي الخامس اشترى القصر من حفيد معاوية خالد بن يزيد بأربعين ألف دينار، وأربع ضياع اختارها في فلسطين والأردن ودمشق وحمص.

يزيد والقصر
لم يكن قصر الخضراء يروق ليزيد بن معاوية، لأنه فتى يحب الموسيقا، واللهو، والخمر. ونشأ في البادية مع أمه ميسون، والخضراء كان قائماً في قلب دمشق فلا يسمح له باللهو والخمر.. فاختار مكانين خارج دمشق لراحته ولهوه، الأول دير مروان، والثاني حوارين، ودير مروان هو دير قديم كان خارج دمشق على جبل قاسيون يطل على الربوة ونهر بردى، وأما حوارين فهي قرية في شرق دمشق، على حدود البادية، وأغلب الظن لم يبن يزيد بها قصراً، إنما كان ينصب الخيم، وقيل إنه توفي في حوارين سنة 564 هجري – 683 م.

القصر في العصر العباسي
عند سقوط الخلافة الأموية بدمشق على يد العباسيين سنة 132هـ/750م، جعل العباسيون قصر الخضراء داراً للشرطة وضرب النقود، ولعله رمم فيما بعد، ثم التهمته النار مع الجامع الأموي في أواخر عهد الفاطميين في القرن الخامس الهجري – الحادي عشر الميلادي.
في نهاية العصر الأموي ونتيجة الإهمال الأموي للقصر أصابه الخراب قبل أن تلتهمه النار في عصر الفاطميين كما يروي ابن كثير: «ألقيت نار بدار الملك وهي الخضراء المتاخم للجامع من جهة القبلة فاحترق… وباد الخضراء فصار كوماً من تراب».
بقيت المنطقة التي كان فيها القصر تحمل اسم الخضراء إلى أيامنا هذه، وأقيم على جزء منها عام 1163 هجري 1749 ميلادي قصر العظم الذي ما زال حتى الآن مستعملاً كمتحف للتقاليد الشعبية.
ويقول الشيخ البديري في يومياته: (وفي تلك الأيام أخذ أسعد باشا دار معاوية..) والمقصود هو قصر الخضراء.
قصر الخضراء كان مسكناً للخليفة الأموي، ولكن الدواوين (مؤسسات الحكم) انتشرت حول المسجد من جهة الغرب وشغلت الأروقة التي كانت تحيط المعبد الروماني القديم، بل أنشئت أروقة أخرى ما زالت قائمة عند مدخل الجامع الكبير، وكان بيت المال وديوان البريد وغيرها تشغل هذه الأروقة، أما مجلس الخليفة فكان في القاعة أو القاعتين الواقعتين في الجهة الغربية من الجامع.

عظمة القصر
المعلومات عن قصر الخضراء قليلة جداً، توزعت في كتب الأولين، وعرف أنه صرف على بناء القصر وزخرفته وأثاثه الأموال الطائلة، وأن له قبة عظيمة لونها أخضر، وأن أرضه فرشت بالمرمر، فيقول الشاعر عبد الرحمن بن حسان، وهو ابن شاعر الرسول ( ص ) حسان بن ثابت، عن هذا القصر حين تغزل بابنة معاوية:
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغواص
ميزت من لؤلؤ مكنون
ثم حاصرتها إلى القبة الخضراء
تمشي في مرمر مسنون
ويتضح من البيت الثاني أن الخليفة كان قد فرش القصر بالمرمر، وهذا شيء جديد بالنسبة للعرب الذين يفرشون الرمال.
وهكذا فإننا لا نعرف عن هذا القصر إلا الملامح التالية: موقعه المؤكد الذي سبق عرضه، قبته الخضراء، بناؤه المحتمل على أنقاض قصر سابق للإسلام كما أشار ابن عساكر، مادة بنائه الأولى الطوب والخشب ومن ثم أعيد البناء بالأحجار والصخور.
وتروي الأخبار أنه كان قصراً تحف به الحدائق والأشجار وأنواع الورود ويطل على سهل وسيع، وتحدث صاحب الأغاني عن هذا القصر وعن كرسي الخلافة الموجود به على هيئة سرير تشبهاً بالفرس، وأن هذا الكرسي مربع الجوانب تستره الوسائد المطرزة الفخمة. ومعاوية أول من استعمل كرسي الحكم عند العرب.

Exit mobile version