Site icon صحيفة الوطن

أحمد رامي… خمسون عاماً من العشق المضني والعذاب المستمر

| أنس تللو

الشاعر أحمد رامي شاعر مصري من أصل تركي ولد عام 1892 في حي السيدة زينب بالقاهرة، درس في مدرسة المعلمين وتخرج فيها عام 1914 سافر إلى باريس في بعثة من أجل تعلم نظم الوثائق…
ثم عاد إلى مصر وتوفي في 5/7/1981.
ولُقِّب رامي بشاعر الشباب.
كل الناس لديهم مشاعر، وكل الناس يتمنون أن يعبروا للآخرين عما يشعرون به حيالهم، لكن قلة فقط هم أولئك الذين يعرفون كيف يعبرون عن الوله الشديد ويتحدثون عن الحب العميق ويوصلون الفكرة.
وقد كان أحمد رامي على رأس أولئك القلة، فقد كانت سعادته الحقيقية تكمن في نجاحه في إيصال الفكرة.
كان الشاعر أحمد رامي الذي يعشق أم كلثوم عشقاً حقيقياً متهالكاً… وقد عانى كثيراً من عشقه الجارم لها وولعه العارم بها الذي استمر مدة خمسين عاماً.
وإني أشبهه وهو في هذا الموقف لمدة خمسين عاماً بعصفور الكنار الحبيس في القفص، وأشبِّه أغانيه وشعره بالتغريد الذي يقدمه ذلك العصفور… ذلك أن تغريد الكنار في القفص إنما هو نداء للأنثى، ونحن نستمع إلى هذا التغريد ونطرب، ولو أننا عرفنا ما هو سر هذا التغريد وأشفقنا على هذا الكنار وأحضرنا له الأنثى ووضعناها أمامه في القفص، لجفِل هذا الكنار وتسمَّر وتوقف عن التغريد… فقد استجابت (الأنثى) لطلبه وحضرت إليه.
وهكذا كان أحمد رامي يغرد منادياً على أم كلثوم، لكنها كانت أذكى من أن تحضر إليه، فكانت هي لا تمنحه متعة التآلف والتفاهم والمشاركة إلا بقدر ضئيل جداً، فقط ليبقى يعيش على الأمل… ما جعل علاقته بها متأرجحة بين العشق الشديد تارة والكره البغيض تارة أخرى لكنه بقي خمسين عاماً لا يملّ من مراسلتها ومناجاتها ومسامرتها والتودد إليها.
كانت أم كلثوم سيدة العشق وأم الشوق والهوى إلا أنها كانت مع أحمد رامي تتغابى معه في العشق، وتبتعد عنه لكي يستمر هو في الشدو.
من هنا فقد كانت عبارات رامي منبعاً ثرَّاً من منابع الوله والولع والهوى، وكانت كلماته بمنزلة كنز ضخم نهلت منه كوكب الشرق أم كلثوم الكثير من القصائد العظيمة التي شدَت بها بصوتها القوي المعبر.
ولو كانت أم كلثوم قد أظهرت لأحمد رامي الود والصفاء، وسارت معه على التفاهم والانسجام لما كنا قد رأينا إبداعات أحمد رامي العظيمة.
مئة وسبع وثلاثون أغنية، كتبها أحمد رامي لكوكب الشرق، لم يتقاض مليماً واحداً؛ لأن الأغنية عنده قطعة من نفسه وروحه وخياله، يهذّب معانيها وألفاظها، فلم يشأ أن يسري عليها نظام العرض والطلب.
قالت له أم كلثوم مرة: أنت مجنون لأنك لا تأخذ ثمن أغانيك.
قال لها: «نعم، أنا مجنون بُحبِك، والمجانين لا يتقاضون ثمن جنونهم، هل سمعتِ أن قيساً قد أخذ من ليلى ثمن أشعاره التي تغنّى بها؟».
وإن خير مثال على تلك الرسائل هو أغنية (عودت عيني على رؤياك)؛ تلك الرسالة التي أرسلها لها في لحظة من لحظات عشقه.
ومنها يقول:
عودت عيني على رؤياك
أشوف هنا عيني
وألقى نعيم قلبي
وإن مرّ يوم من غير رؤياك
وقلبي سلم لك أمري
في نظرتك لي
يوم ما التقيك جنبي
ما ينحسبش من عمري
ويؤكد أحمد رامي أن أم كلثوم إن هي وافقت على وصاله فإن قلبه سوف ينعم بحب عارم يملأ عليه حياته ويجعله لا يكره أحداً، بل إنه سيرى الدنيا كلها مملوءة بالحب، يقول:
ويوم ما تسعدني بقربك
ويفيض علي نور حبك
ألاقي كل الناس أحباب
أقول ما فيش في الحب عذاب
كانت تحبه حب المصلحة، فهو شاعر لا يباريه أحد في كلماته، واعترفت أم كلثوم وقالت: أحب في رامي الشاعر وليس الرجل، وجرحه ذلك، فكتب لها أغنية «يللي كان يشجيك أنيني»، يقول فيها:
ياللي كان يشجيك أنيني كل ما أشكي لك أسايا
كان منايا يطول حنيني للبكا وأنت معايا
حرمتني من نار حبك وأنا حرمتك من دمعي
ياما شكيت وارتاح قلبك أيام ما كنت أبكى وأنعى
عزة جمالك فين من غير ذليل يهواك
وتجيب خضوعي منين ولوعتي في هواك
وأحمد رامي هو الذي كتب لأم كلثوم أغنية «حيرت قلبي معاك»، التي يقول فيها:
حافضل أحبك من غير ما أقلك
إيه يللي حير أفكاري
لحد قلبك ما يوم يدلك
على هواي المداري
وحين كانت أم كلثوم تخاصمه وتهجره كان يقول كلاماً أعظم وأعمق من كلامه الذي يقوله في الوصال، فحين خاصمته أم كلثوم ألف أغنية (يا ظالمني)، وفيها يقول:
أطاوع في هواك قلبي وأنسى الكل علشانك
وأذوق المر في حبي بكاس صدك وهجرانك
ويزداد الجوى بيّا
يبان الدمع في عنيا
وأبات أبكي على حالي
وتفرّح فيّا عُذالي
ولما أشكي تخاصمني
وتغضب لما أقول لك يوم
يا ظالمني
كانت أم كلثوم تعرف كل اليقين أنه يحبها، ومن العجيب هنا أن أم كلثوم قد أحبت رجلاً آخر وهو الدكتور حسن حفناوي وتزوجته، فازداد شقاء أحمد رامي وتضاعفت تعاسته، ويبدو أنها كانت تجد في ذلك متعة، وربما كان الإذلال في الحب قمة السعادة لأحد الطرفين.
والأعجب من ذلك أنها طلبت من أحمد رامي أن يضع أغنية تقول: «شايف الدنيا حلوة لأنك فيها»، وطبعاً هي موجهة للرجل الذي أحبته وتزوجته، طبيبها الخاص، فاستشاط رامي غضباً وقال: أنا شايف الدنيا سودة، أشجارها بتلطم، وأرضها بتبكي
ورفض أن ينظم القصيدة المطلوبة، وخاصمته أم كلثوم، وأصرّ رامي ألا يجعل الدنيا تضحك وقلبه يبكي…
ولما يئس رامي ووجد أن الزمن فات منه، وأن الارتباط بأم كلثوم مستحيل، تزوج إحدى قريباته، لكنه بقي يستوحي من حبه لأم كلثوم كل أغانيه الجميلة، وكانت زوجته تعلم أنه يحب أم كلثوم، واعترف لها بذلك قائلاً: أنا أحبها، وليس ذنبي، وتأقلمت زوجته مع هذه الحال، بل وقد كان يضع صورة أم كلثوم في بيته، وكانوا يقولون لزوجته: إن زوجك يحب أم كلثوم، وكانت المسكينة ترد بقولها: وأنا أيضاً أحبها.
وعندما توفيت أم كلثوم في 1975، دخل أحمد رامي في حالة اكتئاب شديدة، وكتب أجمل الكلمات وأعذبها في رثائها، ثم بعدها كسر القلم وهجر الشعر، وفي حفل تأبيها عام 1976 طلبه الرئيس السادات ليشارك في الحفل، فقال أجمل الكلمات في رثائها، منها هذان البيتان:
ما جال في خاطري أنّي سأرثيها
بعد الذي صُغتُ من أشجى أغانيها
قد كنتُ أسمعها تشدو فتُطربني
واليومَ أسمعني أبكي وأبكيها
قدم أحمد رامي لأم كلثوم مئة وعشر أغنيات، منها: «على بلد المحبوب» 1935 «كيف مرت على هواك القلوب» 1936 «افرح يا قلبي» 1937 «النوم يداعب جفون حبيبي» 1937 «فاكر لما كنت جنبي» 1939 «أذكريني» 1939 «يا ليلة العيد» 1939 «يا طول عذابي» 1940 «هلت ليالي القمر» 1942 «غلبت أصالح» 1946.
«غنى الربيع» 1946 «ياللى كان يشجيك أنيني» 1949.
«سهران لوحدي» 1950 «يا ظالمني» 1951.
«أغار من نسمة الجنوب» 1954 «ذكريات» 1955.
«عودت عيني» 1958 «دليلي احتار» 1958.
«هجرتك» 1959 «حيرت قلبي معاك» 1961.
«أقبل الليل» 1969 «جددت حبك ليه» 1952.
لقد عرفت أم كلثوم بحسها الداخلي الخفي أن تحقيق المآرب بشكل سريع يوقف التجدد ويحد من التفكير ويجعل الدنيا لا طعم لها.
وهكذا فقد بقيت أم كلثوم تماطل أحمد رامي وتحاوره وتداوره، تقبل عليه ثم تدبر، وتظهر أمامه ثم تختفي… وبقي أحمد رامي يغرد محاولاً التقرب والتودد حتى اللحظة الأخيرة من حياة ملهمته أم كلثوم التي فجعته بحياتها، وفجعته بموتها.
فكانت معظم روائعه الشعرية شكوى وحنيناً وألماً.
ما كان أجملها من حياة عاطفية مملوءة بالشوق والحب والحنان.

Exit mobile version