Site icon صحيفة الوطن

النقد… السياسة… الثقافة!

| صبحي سعيد قضيماتي

يُطرَح في كثير من الأحيان، عبر ندوات، أو محاضرات، أو في جلسات حوار عادية، مواضيع عن علاقة الثقافة بالسياسة، أو علاقة الثقافة بالنقد، الذي يُجمِع أغلبية، أو جُلَّ العاملين في حقول الثقافة، والأدب، والإبداع بصورة عامة، أننا نفتقر إلى حركة نقدية فاعلة، تلبي طموحاتنا الإبداعية والثقافية. وإذا فَصَلْنا الحراك أو الفضاء الإبداعي، عن التطور الاجتماعي، فنحن لا نعرف، أو ندرك أهمية الثقافة، ولا نفهم مكانة فضاء الطاقات الإبداعية، ولا ندرك أهمية الحراك السياسي، ولا نعترف بأهمية النقد، والنقد الذاتي، في شرايين التطور الاجتماعي. فكيف إذا فصلنا الثقافة عن السياسة، أو النقد عن السياسة، أو السياسة عن الثقافة، أو النقد عن الثقافة، أو الفضاء (الحراك) الإبداعي عن التطور الاجتماعي.. فالمجتمع هو جسم واحد، وبقدر ما هو متماسك، ومتكامل، بتفاعل أعضائه، يكون قوياً وفاعلاً، ومؤثراً، ويحتل مكانة مرموقة تحت الشمس. فالثقافة، والسياسة، والنقد.. الخ ما هي إلا مؤشرات للقيم التي يمتاز بها الجسم. ولولا تواصل هذه القيم، وتداخلها، وتفاعلها، وتكاملها، لما استطاع الجسم أن يؤكد تميزه وفاعليته. ولو أخذنا حقول الأدب: فهل يمكن للقاص أن يكون جاهلا بالشعر، أو لا يحب الشعر، أو غير مهتم بالشعر؟؟ فبقدر ما كان القاص مهتماً بالشعر، وعاشقاً للشعر، استطاع أن يكون متميزاً في نثره.. وبقدر ما كان القاص متبحراً في عالم النقد ونظرياته، استطاع أن يكون دقيقاً في توجيه أفكاره، وأهدافه الأدبية والاجتماعية بالاتجاه الصحيح. لكن، مع الأسف، فهناك شريحة لا يُستهان بها، لا تميز النثر عن الشعر، ولا تميز الخاطرة عن القصة. هذا في المجال الإبداعي الواحد. أما في المجالات المختلفة، فهل نستطيع أن نفصل الطائرة عن الأدب؟ أليست الطائرة هي الحصان الطائر في الأدب؟؟ أو، هل نستطيع أن نفصل، أو ننكر دور الأدباء في تحريض، أو في إنعاش الطاقات لدى علماء الفضاء، أو الفلك، وحتى البيولوجيا؟؟ وقد طرح الأدباء العديد من المواضيع المهمة، ومنها بساط الريح، أو الحصان الطائر، على سبيل المثال، وشحنوا، أو أيقظوا خيال، وطاقات العلماء، باتجاه مواضيع مهمة، أحدثت نقلات نوعية في التطور العلمي والحضاري.. وفي الحياة، لا يمكن أن يعيش، أو يبقى حقل من الحقول، بعيداً، أو منفصلا عن أي مجال آخر من المجالات الأخرى للحياة. فهل ينفصل باطن القدم عن الرأس؟؟ هل تنفصل المعدة عن الرأس..؟ فكيف نفصل السياسة عن الثقافة، وكل مجالاتها وحقولها مرتبطة بشبكة واحدة؟.. وهل يمكن أن نتصور سياسياً لا يهتم بثقافة مجتمعه؟ وهل يمكن أن نتصور سياسياً جاهلاً، لا يهتم بأدب مجتمعه؟.. أليست القراءة هي المدخل للثقافة، أو مفتاح المعارف والعلوم، والفن والإبداع بصورة خاصة؟ ألا يمكن تصور عالِم الرياضيات، وهو يقرأ مثلثاته ومربعاته، ومعادلاته، قراءة إبداعية؟؟.. وهذا العالِم لا يمكن أن يصبح عالماً ما لم يكن قارئاً متميزاً! ألا يحق لنا أن نتصور الطبيبَ شخصيةً درامية، وهو يكتشف، ويشخص المرض؟.. وهل هناك أديب استطاع أن يتألق في فضاء الأدب، كما تألق أنطون تشيخوف في عالم القصة القصيرة، وقد استطاع أن يكشف، ويشخص لنا العديد من الأمراض الاجتماعية، إضافة إلى الأمراض البيولوجية؟ ولنا في شخصية عبد السلام العجيلي، مثل ساطع، وهو الذي جمعتْ شخصيتُه الأدبَ، والسياسةَ والطب. ومن هناك، من لا يتفق معي عن المكانة السياسية والأدبية للأديب حنا مينه؟؟ ومن عاصر الشاعر ممدوح عدوان، يعرف أنه كان محللاً سياسياً بارعاً، وعميقَ النظر في تحليله للواقع السياسي الذي عايشه، وعرف جزءاً كبيراً من أسراره، وهو الشاعر والمسرحي والمترجم. ومن يطلع على مداخلات ممدوح عدوان في الندوات، والمحاضرات، والمؤتمرات، لا يشك بأن ممدوح عدوان، يعيش معنا في هذه الأيام التي تمر بها سورية بمحنة قاسية. فالأديب يستشرف المستقبل، ويرى ما لا يراه الناظرون. ومن يقرأ وصية سعد اللـه ونوس لابنته، لا يشك بأن ونوس المسرحي، لديه أفق سياسي واسع، ولا يشك بأن سعد اللـه يقف على أرضية صلبة، ويملك رؤية سياسية ثاقبة بعيدة النظر. يوصي سعد اللـه ونوس ابنته: (أولاً: ليس في نيتي أن أقدم لكم أي وصية. لأني لا أملك هذه الوصية. ثانيا: لأن أية وصية لا تبلورها التجربة، والمعاناة، هي نوع من اللغو والإنشاء. وكثيراً ما حلمنا أننا سنترك لكم زمناً جميلاً ووطناً مزدهراً.. لكن علينا أن نعترف، ودون حياء أننا هزمنا وأننا لم نترك إلا خراباً، وبلاداً متداعية. ويجب أن يكون هذا واضحاً… وهذا ما أعتقده على الأقل. إن هزيمتنا لا تعني أن الأفكار التي كنّا نتبناها، وندافع عنها كانت خاطئة.. لا. لم تكن أفكار الحرية والديمقراطية، والعقلانية والوحدة العربية، والعدالة الاجتماعية أفكاراً خاطئة.. ولكن جيلنا لم يعرف كيف ينتصر بأفكاره، ولأفكاره… لا المغفرة مهمة… ولا الإدانة مهمة أيضاً… لكن ما يعمق الأسى في الروح هو أننا نترك لكم العمل غير منقوص… وندفعكم قبل الأوان كي تبدؤوا العمل في تاريخٍ، وأرضٍ لا يقدمانِ إلا الإحباط والمصاعب… أود أن تكون هذه النبرة الكئيبة مجرد تهويمة مرض، وأود أن تكون الطاقات المخزونة في أعماقكم أقوى من هزيمتنا ورؤانا… ومن يدري! فقد تجدون الجملة السحرية، التي يغدو بها الزمن جميلاً، والبلاد مزدهرة) وهل ننسى الأديب والشاعر محمد الماغوط، وخاصة في مسرحيته «كاسك يا وطن»، وكتابه «سأخون وطني».. فهل ننكر الطبيعة، أو الفكر السياسي للشاعر محمد الماغوط؟.. وهل ننسى أن أفكاره ومبادئه السياسية، هي المحرك الأساسي لإبداعه المسرحي؟؟..
الأمثلة كثيرة ولا تُحصى. ولا ننسى كيف بكى القيصر، وهو يقرأ (ذكريات من منزل الأموات) التي كتبها دوستويفسكي… في منفاه الذي أرسله إليه القيصر نفسه. وفي عالم الفن التشكيلي لا تغيب عن ذاكرتنا لوحة بيكاسو (الغورنيكا).. وغيرها من الأعمال التي تتصل، أو تظهر الثقافة والفن في عناق حميم بالسياسة.
لا يمكن أن تكون الثقافة، وكل ما يتصل بها من أدب وفن، إلا في تماس ما، أو في علاقة متفاعلة مع ما يمكن أن نضعه، أو نراه، ينتمي إلى السياسة، من قريب أو بعيد.
أما النقد، فإذا كان ذاوياً، أو ضعيفاً، أو مريضاً، قائماً، على الشللية، والمحسوبية، وعلى أحكام عين الرضا، فعلى الثقافة، والأدب والسياسة السلام،.. وإذا كانت السياسة فقيرة بالثقافة، فهي تحمل صليبها على ظهرها، أو حتفها في أحشائها. والنقد من أهم عناصر الثقافة، لأن النقد ينمي ملكة التمييز، بين قول، وقول، وبين فعل وفعل.. لأن النقد إذا نشط، يؤكد بأن الثقافة والسياسة سليمة من علة عمى الألوان. وهنا نتذكر المتنبي:
وهبني قلت هذا الصبح ليلٌ
أيعمى المبصرون عن الضياء؟!
فالنقد، والثقافة والسياسة، لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. فبقدر ما يكون السياسي مثقفاً، بقدر ما يكون ناجحاً ومؤثراً وفاعلاً.. وبقدر ما يملك المثقف أو الأديب رؤية سياسية واضحة وناضجة، بقدر ما كان مدركا لحيثيات الواقع الذي يعيشه. وبقدر ما يتحلى كل فرد منا، برؤية نقدية واضحة، تريحه من أخطائه وسلبياته، بقدر ما يكون ناجحاً وفاعلاً، في مجال يخوضه. ولذا نسأل: لماذا النقد لدينا في أسوأ حالاته؟؟…. وهل الثقافة في حالة تلبي طموحاتنا الحضارية، ما دمنا أمة إقرأ؟… وهل يتميز واقعنا بفضاء سياسي نشط ومتميز!
أترك الإجابة للمعنيين في الأمر..

Exit mobile version