Site icon صحيفة الوطن

حلب في عيوني.. تبقى الوردة الفوّاحة رغم الدم والدمع الذي تسكبه … شادي نجار لـ«الوطن»: لا يمكن للموسيقا أن توقف الحرب ولكنها قادرة أن تعيد زرع الأمل الجديد في الحياة

| سوسن صيداوي

في هذا الزمن القاسي الذي تعيشه سورية متمسّكة بكليّتها وبكل ما فيها من روح وأماكن وحضارة، تقوم رغم أنينها المضني كي تحتضن وتضم بقوة وبعاطفة الأم لأبنائها. واليوم حلب رغم الظرف الحالي تحذو حذو سوريتها الأم متمسّكة أيضاً بأبنائها باعتبارهم الحرّاس الحاليين وهم من يحمل الرسالة إلى الأجيال القادمة، وبالرغم مما يحوم حولنا من تهويل إعلاميّ مدّمر لكل ما نحتاجه كي نستمر بالعيش، يظهر من بين الحطام والركام وهول العنف والقسوة والقتل والموت، من هؤلاء الحرّاس، محاربون كل ما ذُكر بما هو أرق من نسيم الربيع ولكنه بفعل تأثيره أقوى من حدّ سيف، إذاً من بين حرّاس حلب العاشقين، عازف البيانو شادي نجار الذي مدينته في قلبه هي معشوقته، وبنظره وردة نضرة فواحة بالجمال والشباب والحياة، ولا يمكن للفصول أو الظروف أن تغيّر من كونها وردة حتى لو جارت عليها أو حوّلتها إلى وردة تنزف دماً، وبقرارة نفسه هو مصمم على أن يبقى حاضراً فيها مجفّفاً للدماء التي تنضح منها بموسيقاه المفعمّة بمشاعر المحبة والناطقة بالروح.
صحيفة «الوطن» التقت الفنان وحاورته.

حدثنا عن بداياتك والعزف؟
تربيت ضمن عائلة بسيطة ومتواضعة ملتزمة ومثقفة، وأنا أعتقد أن كلّ عائلة ملتزمة ومثقفة تسعى أن تعلّم أولادها فناً من الفنون، لأنها تؤمن بأن الفن يعمل على ترقية المشاعر وتهذيب النفس ويساعد في التربية، ومن هنا كان والدي يشجعني ويُسمعني موسيقا رغم أنه لا أحد لدينا في العائلة موسيقيّ، في البداية كان لدي أوكورديون صغير وكنت أحاول العزف عليه، الأمر الذي شجّع والدي وقرر إرسالي مع أخي التوءم إلى معهد كي نتعلّم العزف وكان هذا في عام 1990، بوقتها حيث كنا مندفعين جداً لأنها لم تكن رغبة الأهل فقط، بل كانت رغبتنا أيضاً.

لماذا اخترت البيانو من بين الآلات الموسيقية؟
بصراحة لم أختر البيانو بل أعتقد أن هناك قوة هي اختارته لي، ولكن المدرسين والموسيقيين نصحوني أنا وأخي بألا نعزف على نفس الآلة، كي نتنافس بالعزف ونشكل ثنائيا، وفي النهاية كي نستطيع أن نقدّم رسالتنا الخاصة، وهكذا بدأت بالتدريب على البيانو وأخي على الغيتار، وكنا نتحدى بعضنا بالبروفات لنرى من تقدّم في التمرين أكثر، وشاءت الأقدار أن أتابع بالعزف على البيانو وأخي على الغيتار، وأنا سعيد لأن اللـه ألهمني اختيار آلة البيانو لأن بالفعل من سمّاها ملكة الآلات لم يكن مخطئاً، فهي قادرة أن تعزف عزفاً إفرادياً أو ترافق أوركسترا، وكل شخص يعمل في التلحين أو التوزيع الموسيقيّ عليه أن يكون ملماً بها.

إيد بإيد منعمرها.. مدينتي.. مجموعة من عناوين لأغان أنت قدّمتها.. برأيك هل الموسيقا قادرة على إيقاف الحرب؟
بكل بساطة لا، فالموسيقا ليست قادرة على إيقاف الحرب، وأنا أرى الحرب صراعاً ولكن بلغة جسد متعفن وجسد همجي بربري، في حين الموسيقا هي لغة روح، ولا أعتقد في مكان ما أن تلتقي لغة الجسد التي ذكرتها مع لغة روح الموسيقا النبيلة، ولكن هل تستطيع أن تؤثر في الإنسان زمن الحرب؟، هنا أقول: نعم.. فالموسيقا قادرة وبرجاء متجدد أن تعيد زرع أمل جديد في نفوس إنسانيتنا، ولديّ قناعة تامة أن الموسيقا، لمن أراد الإنصات إليها، تسمح بأن تدخل إليه محدثة تأثيراً كبيراً سواء بالفكر أو المشاعر.

أنت معني جداً بحلب.. كيف حلب في عيون شادي نجار سواء في الماضي أو الحاضر؟
عشقي لحلب عشق لامتناه، لي فيها ذكريات وحياة لن أنساها، فأنا أعشق قلعتها ومدينتها القديمة، وأعشق صوت المطر النازل من السماء على حجارتها على الأرض كما أعشق رائحة المطر في الحدائق، فحلب لي وفي الماضي كالوردة كلّما أعطيناها حباً وسقيناها وقمنا بالاعتناء بها، بادلتنا بعطرها الرائع، ولكن حلب في الحاضر، نعم بقيت وردة ولكنها تنزف دماً وتبكي دماً، ولكن ليس من المنطقي أن نقتلع هذه الوردة أو نستعيض عنها بأخرى، كلامي هذا دون الإشارة لأي شخص غادر المدينة، فأنا أحترم ظروف الجميع، حلب في عيوني تبقى الوردة الفواحة رغم الدم والدمع الذي تسكبه.

تقوم بتدريب عدة كورالات من حيث العزف أو الغناء.. هذه التجارب ماذا تضيف للفنان في المسيرة الموسيقيّة؟
أقود كورال أو جوقة القديسة تيريزيا منذ عشرين سنة وحتى اليوم، وطبعا نقوم بالتدريب بشكل أسبوعي ونقيم خدمة القداس الإلهي في كنيسة القديسة تيريزيا، وأنا أؤمن تماماً بأن كل من يخرج من الكنيسة أو المسجد مرتلًا ومسبحاً، لابد أن يخرج جامعاً في نفسه إحساساً مرهفاً، فأم كلثوم وصباح فخري خرجا من الجوامع منشدين، وفيروز وماجدة الرومي ووديع الصافي خرجوا من الكنائس مرتلّين، فما يميّز هؤلاء العمالقة بأنهم امتلؤوا بحنان وإحساس الله، وبالتالي تجسّد هذا الإحساس المرهف في فنهم ووصل إلى الناس، وبالنسبة إلى الكورال فهو يقوّي الشخص أكاديمياً وموسيقياً، فأنا درست التوزيع الكورالي في المعهد بشكل نظري، ولكن بوجود الكورال جسّدت ما تعلّمته نظرياً، وخاصة أن كورال القديسة تيريزيا قائم على أربعة أصوات، وهنا لابد أن أذكر أنه بسبب الكورال حصلت على أكثر من جائزة على مسرح دار الثقافة/ دار الأوبرا في التوزيع الكورالي والموسيقي، وبالنتيجة تعطي قيادة الكورالات والفرق شخصية موسيقيّة قياديّة واضحة في حياة الفنان خلال مسيرته.

ما الخطط المستقبلية وأين يجد شادي نجار نفسه فيها؟
أجد نفسي موسيقياً ملتزماً موسيقاه تحاكي الروح ولا تحاكي الجسد، وأجد نفسي على المسرح أقود أوركسترا كبيرة جداً وأعزف مقطوعات من تأليفي الخاص، هذا إضافة إلى استمراري في العزف المنفرد على البيانو وقيامي بالتلحين وبالتوزيع الموسيقي ضمن الخطط المستقبلية والتي كلّها تتطلب مني وقتاً وجهداً كي أحافظ على الاستمرارية.

حدثنا عن تجربتك في التوزيع الموسيقيّ وما العناصر المطلوبة كي تنجح المقطوعات والأغاني المعاد توزيعها؟
التوزيع الموسيقيّ قادر أن يُفشل لحناً جميلاً أو يُنجح لحناً ليس بجميل، إذاً التوزيع الموسيقيّ قادر أن يغيّر الموضوع أو الجوهر بشكل كبير، فمثلا أنا أعدت توزيع أغنية فيروز «يا أنا يا أنا» والفيديو الذي انتشر حصد عدداً هائلاً من المشاهدات ولاقت الأغنية ترحيباً من المشاهدين والجمهور، وبالتالي كي تنجح إعادة التوزيع علينا أن نعرف طبيعة كل آلة والمدى المنطقي في العزف عليها، كما نحتاج إلى اطلاع واسع على الإيقاعات وفي تبديلها، كما أن أي توزيع جديد لأي أغنية معروفة يتطلب أن نحافظ على اللحن المعروف للأغنية، فالناس لا تقبل بتغير اللحن الأصلي، فهذا يتطلب منا أن نحافظ على اللحن مع استخدام آلات موسيقية في محلات معينة مع اللعب على الإيقاع، فمثلا أغنية «جانا الهوى» لعبد الحليم حافظ بطيئة، ولكننا اليوم نسمعها من جورج وسوف بنفس اللحن ولكن الإيقاع أسرع، وهذا ما فعلته في أغنية فيروز «يا أنا يا أنا» من حيث عزف الكمانات.

حدثنا عن التلحين وما رأيك في الأغنية السورية بالعموم؟
التلحين هو نعمة من الله، وحتى لو درس الفنان الموسيقا، إذا لم تكن لديه هذه النعمة فلن ينجح والعكس صحيح، فمن تتوافر لديه هذه النعمة فعليه أن يدرس كي يبقى اللحن أكثر أكاديمية وأكثر ثقافة وتجانساً. وبالنسبة إلى رأيي في الأغنية السورية أنا أعتقد أنها بعيدة عن منافسة الأغنية المصرية أو اللبنانية، ولكنها في مجال الدراما السورية استطاعت أن تسيطر على الوطن العربي، ولكنها منفردة لا تستطع المنافسة رغم وجود الأغنية الساحلية مثلا والمنتشرة بشكل واسع جدا، لأن الأغنية الإيقاعية التي تحاكي الجسد لا تشكل بصمة على مستوى الوطن العربي، فهي ببساطة لا تتمتّع بثقل الاستمرار.

بمن تأثرت موسيقيّاً ولمن تحب أن تسمع؟
أعشق الرحابنة وتربيت على فنهم، فهم استطاعوا دمج الغرب مع الشرق بطريقة سلسة وأكاديميّة قويّة جداً، وأعشق زياد الرحباني وموسيقا الجاز، وأسمع ماجدة الرومي وصباح فخري الذي هو فخر موسيقانا وعلينا أن نحافظ على إرثه الموسيقيّ من خلال أن نُسمع أبناءنا هذه الموسيقا الغنية جدا.

جاي الحب.. هل نحن محكومون بالأمل؟
«جاي الحب» هي من سلسلة أغان بدأنا بها، من كلمات سمير طحان وهي بصوت السوبرانو نور محفوض وأنا من لحنها، ولكن بسبب الحرب وعدم توافر الدعم المادي توقف السيديه، وبالنسبة للحب لا يمكن أن يأتي إلا عندما يأتي السلام فإذا لم يأت السلام فلن يأتي الحب، وطالما هناك حرب لن يكون هناك سلام، ولكن يجب أن يبقى الإنسان متفائلاً وأن يعيش برجاء متجدد بأن الحب قادم وعن طريق السلام وهو أمر علينا ألا نتخلى عنه.

السؤال الأخير.. ماذا عن اوركسترا صَبا؟
بدأت اوركسترا صَبا من سنة تقريبا، وبدأنا بالتحضير وكتابة النوت الموسيقيّة وبسلسلة حفلات، وعملنا حفلات في حلب، وفي العام القادم لدينا حفلة في الشهر الثاني في طرطوس وفي الشهر الثالث في دمشق، فنحن كفنانين وموسيقيين متمسكين بدورنا وبرسالتنا بزرع الأمل والتفاؤل في الحياة رغم ما نواجهه اليوم من تحديات، ولكن للأسف لا يوجد من يدعمنا ويدعم ما تقدمه على الخصوص اوركسترا صَبا من حفلات، وفي نهاية حديثي أريد أن أشير إلى أنني كنت اخترت كلمة صَبا انطلاقاً من فكرة جبران خليل جبران بأن صَبا هي الروح الحزينة التي تهب من الغرب إلى الشرق، ولكن نحن في الاوركسترا نعيد هذه الروح التي أرسلها لنا الغرب ومعها كل الشر والدمار، وسنعيدها بعشق الحياة وبالثقافة والحضارة التي لدينا، وبأننا سنرد بفكرنا المتحرر، وأيضاً مقام الصَبا وهو من المقامات الموسيقية التي يبدأ بنوتة ولا ينتهي بنفس النوتة، وهنا التسمية بأن واقعنا في الحرب لن يكون نفسه واقعنا بعد الحرب، ولن نسمح بهذا على كل المجالات والأصعدة.

Exit mobile version