Site icon صحيفة الوطن

نصيحة حنا عبود

|  حسن م. يوسف 

عندما أرى اسم الباحث السوري حنا عبود على مقال أو دراسة أو كتاب أعد نفسي دائماً بما هو ممتع ومفيد، والحق أن هذا المفكر لم يخيب أملي يوماً فهو بالإضافة لإسهاماته الفكرية العميقة في مجال نظرية الأدب وعلم الجمال وعلم الأساطير والنقد الأدبي، يحرص على كتابة مقالات صحفية يقدم فيها خلاصة قراءاته المعمقة للقارئ العربي. وقد سبق لي في هذا الركن أن توقفت، قبل مدة، عند كتابين مهمين قدمهما للمكتبة العربية، الأول هو: «ليليت والحركة النسوية الحديثة» وهو من تأليفه، والثاني من ترجمته وهو «يوم كان الرب أنثى» للباحثة الأميركية مارلين ستون.
قبل يومين قرأت على الصفحة السابعة من العدد الأخير لصحيفة الأسبوع الأدبي التي يصدرها اتحاد الكتاب العرب بدمشق مقالا للباحث حنا عبود بعنوان لافت هو: «الانحطاط والفرح ». وقد هزتني الفكرة الخطيرة التي ينطوي عليها المقال، ولم تتوقف عن الإلحاح عليَّ لدرجة أنني لم أتمكن من استبعادها. ونظراً لأهميتها البالغة قررت أن أكرس هذا المقال لطرحها عليكم.
يرى حنا عبود في مقدمة مقاله أن: «الانحطاط سوس الأنظمة يعمل بصمت ومثل الخلد يحفر طريقه ومساربه في الظلام… إنه يقضي على الدولة والإمبراطورية والأمة والوطن والشعب بهدوء وبالموجة الطويلة، على عكس الانقضاض العسكري الذي يزيل دولة أو يمحو أمة…»
وللتدليل على صواب فكرته يعدد حنا عبود عدداً من الإمبراطوريات التي زالت من دون أن تتعرض لحروب وغزوات كروما والأنكا والأزتيك والمايا كما يعدد بعض الشعوب كالسومريين والآشوريين.
يتوقف حنا عبود عند الإمبراطورية الرومانية كأوضح مثال على «الانحطاط البطيء الصامت». فرغم أنها كانت أقوى إمبراطورية في العالم القديم إذ «ورثت عن اليونان أعظم تراث أدبي يفترض أن يقيها من الانهيار» كما «شقت الطرقات وبنت القناطر والجسور والسدود الضخمة وجعلت أجزاء العالم في كتلة واحدة، ومدت الأقنية المائية وأشاعت الحمامات، فجلبت النظافة والخضرة والزراعة المتقدمة للعالم القديم، فأيقظته وطورته» إلا أن هذا كله لم يغير مقدارها ولم يحل دون انحطاطها.
وبحثاً عن السر الكامن خلف ذلك الانحطاط يستعرض حنا عبود كتاباً من ستة أجزاء عن «تاريخ انحطاط وسقوط الإمبراطورية الرومانية» للسياسي الإنجليزي إدوارد جيبون.
يتوقف حنا عبود عند استنتاج جيبون بأن «كل الأسباب التي عملت بصمت أو بصخب» على تفتيت الإمبراطورية الرومانية «تقضي على الفرح البشري وتحوِّل الناس إلى أدوات تسعى للكسب المادي فقط». ويربط جيبون بين انتشار المسيحية وانكماش الفرح في حياة مواطني الإمبراطورية الرومانية، إذ ألغت الدولة الألعاب الأولمبية في القرن الرابع الميلادي لأنها (ألعاب وثنية) وقد دام هذا الإلغاء خمسة عشر قرناً!
يرى جيبون أن انحطاط الإمبراطورية الرومانية «بدأ فعلاً بإلغاء الألعاب والمسارح والآداب والحمامات والمنتزهات والاحتفالات والأعياد القديمة »، ويرى أن ذلك ترافق مع «ظهور تشريعات كنسية تجعل المرأة طالقاً إذا تفرجت على مسرحية أو ذهبت إلى الحمام مع صاحباتها. والأغرب ادعاء الكنيسة أن المعمودية تغني عن الاستحمام… ولذلك لم يكن الملك الشمس لويس الرابع عشر يستحم في العام إلا مرة واحدة في عيد الغطاس».
في ختام مقاله المهم يستنتج الباحث حنا عبود أن «كل الدول التي زالت من دون حروب لم تهتم بالفرح، إن لم نقل هي الدول التي حاربت الفرح». ثم يخاطب ذوي الشأن في الدول العربية أن يمعنوا النظر في الحياة من حولهم، فشحنة الفرح الظاهرة على وجوه مواطنيهم هي التي ستحدد أعمار دولهم.
تحية تقدير للمفكر حنا عبود.

Exit mobile version