Site icon صحيفة الوطن

ممدوح عدوان يتأخر عن الموعد

| أحمد محمد السح

«سيأتي وحده الموعدْ
وأمّا أنتَ فلن تأتي»
كتبت هذه الجملة حين مات ممدوح عدوان في 19/12/2004 وكنت طالباً في أواخر المرحلة الثانوية، أفكر أنني سألتقيه يوماً ما، وأقول له الكثير عن امتناني وحبي له، وربما كنت أريد وقتها أن أبهره بموهبتي. هكذا كنت أتخيّل، هذا الرجل الذي لم أعرفه في المناهج التربوية، ربما لأن ما كتبه يوماً ما كان بعيداً عن السياق التربوي ذي الخط الواحد للمناهج والدروس الأدبية، فكتابته الغاضبة لم تناسب منطق التحفّظ والرزانة المطلوب غرسه في أجيالٍ كانت سماتها تشبه سماته، تريد فقط اقتحام الحياة، لتمشي في زحامها وغضبها، لا أن تمشي بجوار الحياة. كنت قد عرفت ممدوح عدوان من التلفاز وبطريقةٍ غريبة، أذكر كيف كان صوت التلفاز عالياً، ووحيداً يصدح حين سمعته يلقي قصيدته التي يقول فيها:
«بدمٍ تُرى أم بالدموعِ ملأتُ هذي المحبرة
وكتبتُ شعراً كي أعزّيَ أم رسمت على الدفاترِ مقبرة»
هذه العبارة الصادحةُ كانت نقطة التعارف مع رجلٍ تابعت مقابلاته التلفزيونية التي ازدادت في سنواته الأخيرة، والتي كان ينطقُ بأفكار كانت تشعرني أنها تشبهني إلى حدٍّ بعيد، أو ربما كان انبهاري به وبمنطقه جعلني أتبنى أكثر ما يقوله. كان أول كتابٍ اقتنيته له هو «وهذا أنا أيضاً» الكتاب الذي ذكر في مقدمته وكرر كثيراً خصوصيته عنده، لأن هذا الكتاب جاء مختلفاً عن سياق التأطير الذي وضعه فيه النقاد والقراء كشاعرٍ اهتم بالقضية والهموم السياسية والوطنية، فقدم نموذجاً مختلفاً في هذه المجموعة وخرج بلغةٍ عالية الإنسانية تشبهنا كثيراً، حيثُ يورد فيها قصيدةً ضخمة موجهةً إلى ابنه زياد أسماها «أقمار زياد الصغيرة» وأورد فيها قصيدة مهمة هي «عاصفة ليلية» تحدث فيها من خلال مونلوج درامي متميز وفق منهج أنسنة الطبيعة لتعطي نصاً ندر وجوده في الشعر العربي ومنها نقتطف:
«… سرتُ نحو البابِ لكن مرتين
ردّني وجهٌ صغيرٌ كان يغفو كالحمام
ما الذي يضمن لي –
لو أنني أفتحُ للريح –
بأن يمضي ليلي في سلام؟!»
لذلك فإن ممدوح عدوان كان في كل ما كتبه يبحث عن المشاكسة في كتابته والصدق المفرط، لأن الصدق مشاكسة في أزمنة الخوف، وهو الذي كتب مجموعات شعرية كانت عناوينها متميزة وغاضبة، وفيها بحث الشاعر عن الحكمة ليكون نبي زمانه وكل الأزمنة من عناوين مجموعاته (أقبل الزمن المستحيل – أمي تطارد قاتلها – للخوف كل الزمان – يألفونك فانفر – الدماء تدقّ النوافذ – ولا بد من التفاصيل) في كتابه (لا بد من التفاصيل) وضع مقدمة أسماها (لابد من الشعر) أعاد تضمينها في كتابه (دفاعاً عن الجنون) والتي عمل فيها على التنظير لدور الشعر في حياة الإنسان مجيباً عن تساؤلات الشعراء عبر كل العصور: «لماذا نحن نكتب الشعر؟» وقد كتب هذه المقدمة بروح الشاعر لا بعقل الباحث، وهو الذي كان يكرر في مقالاته وكتبه الفكرية أن هذا الكتاب أو تلك المقالة لا تتم محاسبتها بالمعايير الأكاديمية وقوانينها، ولكنه في الحقيقة كان فيما يكتبه يبحث ويطيل البحث ربما أكثر من الأكاديميين أنفسهم، لذلك احتاجت روايته (أعدائي) إلى أكثر من 25 عاماً من تجميع الوثائق، واحتاجت روايته التي سبقتها بالنشر (الأبتر) إلى البحث عن القصة الحقيقية لبطل الرواية ليأخذها من الواقع وتتحول إلى عنوان البطولة والإنسانية وآلام الحرب، وهو الذي كتب عن الحرب وأجاد في وصف علاقة الإنسان مع الحرب ليدخل إلى زوايا وتفاصيل تؤكد أنه لم يكتب عن الحرب والانتصار بلغة شعاراتية مريضة، بل بلغة الخنادق والدشم والبرد والحر والجوع لأنه خبر كل هذه التفاصيل وأكثرَ في الكتابة عنها حتى إن الكثير من القراء والنقاد في بداياته ظنّ أنه فلسطيني، وهو الذي كان يقول إنه يريد فلسطين كاملة دون أن يسأله أحد كيف ومتى… لكنه تميز وبشكل أساسي وربما كان السبّاق إلى ما أسميه بـ«القصيدة التاريخية» لكونه عمل على كتابة التاريخ وشخصياته بلغة جديدة محايدة مبتعداً عن العبارات الطنانة التي غلفت الشخصيات التاريخية مدحاً وذماً ليعود هو من جديد ليؤنسن التاريخ ويقربه من عقل القارئ واضعاً الشخصية ضمن سياقها الدرامي فهي لا شيطان ولا ملاك فكتبها بحيادية، إذ تميزت معظم مجموعاته الشعرية بوجود هذا النموذج من القصائد ليكون رائداً فيها، ففي مجموعته الرائعة «تلويحة الأيدي المتعبة» ستُبرِز العناوين وحدها هذا النوع من القصائد مثلاً «سقطة وحشي – يوميات الحطيئة – خارجيٌّ قبل الأوان – رسالة إلى أسماء بنت أبي بكر» وفي كل مجموعة شعرية ستجد شيئاً من ذلك، مثلاً ستجده يتحدث عن ثورة الزنج ضمن مجموعته «الدماء تدق النوافذ» وهي قصائد تتميز بطولها وكثافة أفكارها، وهو البعيد عن كتابة القصائد القصيرة لأنه يكتب شحنات فكرية بعواطف لا مجرد دفقات عاطفية فارغة، ومن الأشياء الكثيرة التي تذكر عن صديقي ممدوح عدوان أنه حين قرر تكريم صديقه الشاعر محمد الماغوط اخترع مصطلحاً أسماه «التلاص» وهو سرقة كتابة شاعر أو أديب آخر وتوريدها كما هي في سياقها وهو ما فعله ضمن المسرحية الجميلة «الفارسة والشاعر» التي كتبها بلغة ماغوطية عالية وأورد جملاً من شعر صديقه المكرم حتى أتعب الأصدقاء في البحث أين محمد وأين ممدوح… وكيف لا وهو سيد الكتابة الشعرية والمسرحية، ونماذج مسرحياته مثل «ليل العبيد – سفربرلك – الكلاب – حكايات الملوك» تحرّض جمهورها على التعب والاستنفار ومثلها فعل في الدراما ولن تنسى الدراما السورية ملحمته «الزير سالم» التي لا تزال تحتفظ برونقها حتى اليوم وستبقى كذلك لأنها تحمل جودة النقاش والحوار مع المتلقي حارمةً إياه الكسل والنوم على أريكته وهو يتابع الدراما كما يراد له اليوم، لذلك فإنه في كل ما كتب كان يكتب لهذا الغرض وبهذه الصورة، ويمتلك من الموهبة الكثير التي يطوعها بأشكال عديدة في الشعر والرواية والمسرح والدراما. اليوم في هذا الزمن الذي لن يرضيه حتماً لن يغيب عدوان عن ذاكرتنا كجيلٍ يستلهمه في أيام كهذه وهو الذي كتب في مقدمة مجموعته الأولى «الظل الأخضر» بوصلته في الكتابة: (اكتب كأن أحداً لن يقرأك) نذكّره جيداً أننا ما زلنا نقرؤه وكثيراً أيضاً.

Exit mobile version