Site icon صحيفة الوطن

التنوير ومملكة العقل

د. علي القيم : 

 

التنوير في اللغة العربية يعني، وقت إسفار الصبح، وهو أول النهار، وفي المصطلح، يقول «كانت»: هو هجرة الإنسان من اللارشد، واللارشد يعني عجز الإنسان عن الإفادة من عقله من غير معونة الآخرين، كما أن اللارشد سببه الإنسان ذاته.. إذن، التنوير فضاء لعالمنا المظلم، وهو يتجاوز نفسه باستمرار، وهو إبداع مستمر للأفكار، وبوسع كل إنسان قراءته والاشتغال عليه لصرفه واستثماره أو نقده وإعادة إنتاجه، وقد احتل التنوير مكانة رئيسة في مراحل مختلفة من تطور البشرية..
لقد تمثلت أهم سماته، بوصفه حركة فكرية تتطلع إلى إقامة مملكة العقل، والرغبة بالإيمان بالتقدم، ولذلك أصبحت أفكار التنوير في بعض الدول العربية وفي مقدمتها سورية ومصر، مرتبطة بالمفاهيم التحريرية والقومية، التي ولدت مع بداية الربع الأخير من القرن التاسع عشر، واحتلت مع بداية القرن العشرين مكانة رئيسة في حياه العرب الأيديولوجية.
لقد انبهر الفكر التنويري العربي، بصورة أوروبا، وحلم باستحضار روحها إلى الوطن العربي، ولذلك يلاحظ المرء وجود علاقات مباشرة بين صانعي الفكر العربي التنويري، وبين مراجع أوروبية واضحة، مثل علاقة طه حسين بديكارت، وعلاقة محمد عبده بسبنسر، ورفاعة الطهطاوي بمونتيسكيو، وشبلي شميل بداروين، وفرح أنطون بالفكر الاشتراكي، وسلامة موسى ببيرناردشو، ومحمود عباس العقاد، وعبد القادر المازني بالمدارس الرومانسية الإنكليزية.. لقد تعامل الفكر النهضوي العربي مع مراجع فكرية أوروبية، وتم تحويلها إلى أدوات منهجية عالج من خلالها قضاياه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية.
التنوير، منذ فجر النهضة العربية، لم يكن علمانياً فقط، بل كان إصلاحياً، أو «ليبرالياً».. لقد كان جمال الدين الأفغاني رائد الحركة الإصلاحية الحديثة، دينياً مستنيراً ومنه خرج محمد عبده، وكان رفاعة الطهطاوي «ليبرالياً» يجمع بين العقلانية القديمة والليبرالية الغربية، وكلاهما أقدم من التيار العلماني الذي أسسه شبلي شميل، ويعقوب صروف وسلامة موسى.. لقد نشأ التنوير في بداياته، في حضن الدولة، وبمبادرة منها ورعاية لأعلامه.. لقد صيغ التنوير بناء على النموذج الغربي في بداياته.. نظام برلماني – تعددية حزبية- حرية صحافة- تعليم لا فرق فيه بين ذكور وإناث.. لم يتحول التنوير إلى تثوير، ولم يتحول العقل إلى ثورة.. ظل فكراً عقلانياً خالصاً، والثابت أن التنوير نجح في اندلاع ثورة 1919 م في مصر، باسم الحرية والدستور، والحق فوق القوة، والأمة فوق الحكومة، وكانت هناك محاولات كثيرة للخروج من الواقع العربي المرير، ولكن شريحة «التنوير» أو «التثوير» عجزت عن استيعاب حاجات العصر وتفسير الواقع.. ففقد العقل العربي توازنه، وجفت ينابيع المعارف لديه، وتدهور المشروع النهضوي العربي.. لقد غابت الثقافة العربية الموحدة، وظهرت ثقافات ذات طابع انهزامي مغلق، وبرزت النزاعات العشائرية والطائفية، وتألق التيار الديني من جديد، وتم التراجع عن كثير من المكاسب التنويرية في العديد من المجالات سواء أكانت سياسية أم فكرية أم اجتماعية..
في السياق التاريخي نلاحظ أن تجربة التنوير العربية، لم تستمر، ولم تكتمل، إذ كانت الجهود أشبه بالفردية، فلم يشكل التنويريون تياراً مترابطاً يرتكز على إنتاج معرفة جديدة انطلاقاً من توجهات فلسفية، والمثقف التنويري لم يستطع أن يقوم بدوره في ظل التغيرات التي عصفت بالأمة العربية، ما أدى إلى تنامي نشاط الجماعات الإسلامية وسيطرتها على عقول كثير من أفراد المجتمع العربي.
إن الفكر التنويري يعيش في وقتنا الراهن أزمة وجود، وحالة من الإحباط واليأس، وهناك من يرى أن المثقف بات أعجز من أن يقوم بتنوير الناس، وأصبح هو نفسه يحتاج إلى التنوير بعدما تعامل مع فكرة التنوير تعاملاً غير تنويري، وما ينبغي قوله في هذا المجال، إن التنوير العربي، لم يبدأ أصلاً، على الرغم من بعض الطروحات التي حدثت هنا وهناك، ولكن معركة التنوير تحتاج إلى كثير من الجهد والوقت.. رجال السياسة يتحملون مسؤولية مراوحة عملية التنوير العربي مكانها، مقتصرة على التنظير، لذلك نرى ضرورة إفساح المجال للعقل، وإلى نقد العقل ذاته من جهة، وإلى نقد الواقع من جهة ثانية.. إن هدف التنوير الأسمى هو منح العقل البشري جميع الحمايات والأسباب التي تمكنه من أن يواصل المشوار.

Exit mobile version