حجب الثقة عن رئيسة مجلس الشعب: هل يؤسس لمرحلة جديدة في التعاطي؟
| فرنسا – فراس عزيز ديب
حجبُ الثقة عن رئيسةِ مجلسِ الشعب خبرٌ له رنينٌ خاص لم يعتَد المواطن السوري على سماعهِ حتى بما يتعلق بصغارِ الموظفين، فكيف والأمر يتعلق برأس السلطة التشريعية. حدثٌ لا يجب المرور عليهِ مرور الكرام تحديداً لحجم ما تركه من تساؤلاتٍ منطقيةٍ ليس حول خلفيات الإقالة فحسب لكن للدرس الذي يجب أن يعيهِ كل من يمارس صلاحياته التنفيذية أو التشريعية بعقليةٍ عفا عليها الزمن.
مبدئياً ولكي نضع خطوطاً لتحليلِ ما جرى لابد من بعض الإيضاحات التي يجب أن يعيها المهتمون بالشأن العام، أولها أهمية التمييزِ بين المؤسسات الرسمية ككياناتٍ معترف بها دستورياً، وبين القائمين على هذه الكيانات سواء أكان هذا الكيان مجلساً للشعب أم وزارة للإعلام، لأن هذا التمييز يسحب البساط من تحت أقدامِ أولئك الذين يعتبرون أي نقدٍ موجهٍ للقائمين على تلك المؤسسات هو بمنزلة نيلٍ من هيبةِ المؤسسة أو ضرب برمزيتها الوطنية، هم يحاولون عبثاً الهروب للأمام بفشلِهم في أداء مهامهم المناطَة بهم ويتجاهلونَ أن نوعاً كهذا من النقد أو الإشارة للخلل في النهاية نابع من الحرص على تلك المؤسسات الدستورية التي تهمُّ كل مواطنٍ مؤمنٍ ببلدهِ، فالأشخاص في النهاية بنجاحهم أو فشلهم زائلون لكن المؤسسات باقية.
النقطة الثانية ترتبط بمن لا يزال لديهم سوء فهم لفكرة «الحصانة البرلمانية» وخاصة من يريد التعاطي مع الحصانة كأنها «شيك على بياض»، تجعل منه شخص فوق النقد. على هؤلاء ومن يضرب بسيفهم أن يدركوا أن هذه الحصانة حماية للنائب من أي ملاحقة ناتجة عن موقفهِ السياسي أو المواقف التي يتخذها تحت قبة البرلمان، لكنها ليست حصانة من النقد عندما يقوم بتحويلِ مهمته بتمثيل الشعب إلى مغارة يقتات من خلالِها عبر ما ينسجهُ من علاقاتٍ مشبوهة!
النقطة الأخيرة أن كلا السلطتين التشريعية والتنفيذية مكملٌ للآخر، لكن مايميز السلطة التشريعية أنها يجب أن تكون أقرب للمواطن لأنها في النهاية (منتخبة بأصوات الشعب) وليست مُعينة بقرارٍ هرمي صادر عن السلطات الأعلى. لكن في سورية، القضية معكوسة وأشرنا إليها أكثر من مرة، أي إن السلطة التنفيذية تبدو أقرب لهموم المواطن من التشريعية بمعزلٍ عن مدى نجاحها ضمن الإمكانات المتاحة للنيل من هذه الهموم، والمثال أمامنا طازج:
في الوقت الذي يقوم به رئيس مجلس الوزراء المهندس عماد خميس بزيارةٍ هي الأولى لمسؤول في السلطة التنفيذية لمقر «صحيفة الوطن» ويشيد بدورها كإعلام مستقل ووطني له دور واضح ومهم في التصدي للحرب التي تُشن على سورية، كان هناك في السلطة التشريعية ما يُحاك للصحيفة فقط لأنها لم تشأ أن يتحول مراسلوها تحت قبة البرلمان لمجرد «مُستكتبين» يُملي عليهم من يشاء ما يريدون ويمارسون مقص الرقابة على ما يشير إلى فشلهم. لكن الأسوأ من ممارسة دور «مقص الرقيب» هو ما كان قد طلبهُ المكتب الصحفي من «الوطن» بضرورة استبدال المراسلة بغيرها، هذا الطلب ما كان له أن يبقى ضمن هذه الحدود لو لم تنفجر القصة بما فيها ثبوت مصداقية الصحيفة في نشرها لقصة «مداولات الفيميه»، وتصبح قضية رأي عام، بمعنى آخر هذا الطلب كان أشبه بمسمار جحا الذي سيتبعه طلبات أشد ديكتاتورية من قبيل منع مقالات، أو التوقف عن نشر مقالات لصحفيين بعينهم. لو لم يجر ما جرى مع «الوطن» لكان حتى اليوم بين ظهرانينا من يرفع مطرقةَ كم الأفواه ليضرب بها الأقلام الحرة من دون أن ينسى أن يبيع الشعب عند المساء بعض الخطب الرنانة عن «مصيرية المعركة في وجه العدو الغاشم!». مفارقة تبدو غريبة تلك التي صدرت عن السلطة التشريعية لكن وبشفافية خالصة فإن المفارقة الأهم هي السؤال الجوهري: أين كان نواب مجلس الشعب من كل ما جرى مع «الوطن»؟
في البيان الذي صدر عن مجلس الشعب عقب إعلان النواب عن حجب الثقة ورد في سياق مسوغات الحجب أن عباس دأبت ومنذ أشهر على ممارسات غير ديمقراطيةٍ في التعاطي مع آراء الأعضاء، كذلك الأمر فإن عدداً من النواب خرجوا على شاشات التلفزة في مساء ذات اليوم يتباكون للمواطن من الممارسات المجحفة بحقهم من رئيسةِ المجلس لدرجة شعرنا فيها بالرغبة في البكاء على من سلمناهم مصيرنا التشريعي، بل شعرنا وكأنهم يتعرضون للظلم في دارٍ للأيتام وليس في مؤسسة دستورية، أما البعض الآخر فخرج بتسجيلاتٍ مصورة يتحدث لنا فيها عن بطولاتهِ ودورهِ بتوقيعِ عريضةٍ لإقالةِ رئيسة المجلس لدرجة أشعرونا فيها أن «عنترة بن شداد» عاد إلينا من جديد لا ليتغنى بعبلة والسيف لكن ليتغنى بفروسية وشجاعة هؤلاء الديمقراطيين الجدد. هنا علينا أن ننسى هذه الاستعراضات التلفزيونية لنبحث عن جوابٍ على سؤالٍ مُلح: لماذا لم نسمع هؤلاء الأعضاء يشتكون من هذه الممارسات في حينها، ولماذا صمتوا على «ديكتاتورية خشنة» كهذه؟ بالتأكيد لسنا نحن المعنيين بالجواب، وعلى أبطال الشاشات أن يقدموا الإجابة المقنعة، وأي تسويغ لهذا الصمت هو هروبٌ إلى الأمام لأن حال الموطن يسأل: ما مصير الحياة التشريعية في سورية وهي بيد من خافوا وصمتوا؟
حتى لو تجاوزنا قضية أن الأغلبية البرلمانية تعاطت بصمتٍ مع ما يجري لحرصها على «البيت الواحد» عندها سيكون السؤال: أين هم من يقدمون أنفسهم كنواب من خارج الأغلبية الحاكمة حتى لا نكذب على أنفسنا ونسميهم «معارضة» لأننا لم نشاهدهم يعارضون حتى اليوم إلا ببعض المنشورات الفيسبوكية المنمقة التي جعلتنا نشعر بأن مجلس الشعب هو المدينة الفاضلة وهم «أفلاطونيو» هذه المدينة. من هنا تكمن العبرة، وليس اختصار المشكلة بمكتبٍ صحفي تعاطى بطريقةٍ غيرِ قانونيةٍ مع صحيفةٍ غير رسمية، لأن هذا المكتب في النهاية كان ينفذ تعليمات لا أكثر، ورئيسة المجلس إن كانت قد بالغت بتصرفاتها فلأنها رأتهم نياماً.. وما هم بنيام. حتى عندما قرر هؤلاء- وهم قلة- الحديث عن التضامن مع ما تتعرض له «الوطن»، بعضهم نوجه له التحية لأن رأيه كان واضحاً دونما مواربة، أما الآخرون فحاولوا التهرب من الجواب بطرقٍ شتى لدرجة أن أحدهم اتهم المراسلة التي تستطلع رأيه بأنها «بتطلع من الباب بتدخل من الشباك» وتناسى حضرته أن إلحاح المراسلة في النهاية هو نتيجة لعدم وجود جواب واضح منه لا أكثر، ومن ثم يبقى السؤال الأهم:
كيف يمكننا استغلال ما جرى لتحويل مبدأ المحاسبة المباشرة لأي مسؤول يتجاوز القانون أو يخل بالمهام الموكلة إليه إلى ثقافة تؤسس لبناء حياة سياسية وديمقراطية أكثر نجاعة، وليس لمجرد حدثٍ عابر؟
في الإطار العام فإن سورية مقبلة في المرحلة القادمة على مرحلة من إعادة بناء البشر والحجر، هذا الأمر يتطلب تفعيل عمل جميع المؤسسات، لكن هذا العمل ما لم يتساوى مع شعور القائمين عليه بالمراقبةِ والمتابعة لتجنب الهفوات، فإنه سيبقى خاضعاً لاجتهاداتِ هذا المسؤول أو ذاك تحديداً في ظل غيابِ شبه كاملٍ لدور الإعلام الرسمي الذي يبدو أن القائمين عليه يصرون على التعاطي مع العاملين فيه كموظفين وليس كأقلام. أما فيما يخص مجلس الشعب فإن ردات فعل المواطنين على ما جرى من حجب الثقة والتعاطي مع الحدث بصورة فيها نوع من اللامبالاة، فهو تجسيد لصورة هذا المجلس في ذهن المواطن. ربما أن الهوة تتعمق بين السلطة التشريعية والمواطن ولابد من تكرار الصدمات الإيجابية لوضع اللبنة الأولى لبناء الثقة. تحديداً نحن لا نستطيع استخدام تعبير «ترميم الثقة» لأننا حينها سنفترض أن هذه الثقة موجودة. الخطوة التالية الآن يجب أن تكون بإعادة النظر بالنظام الداخلي للمجلس، وهذا يبدأ بعلانية الجلسات وبحضور الإعلام من دون انتقائية مع إمكانية تخصيص مساحة ضمن فترة البث لإحدى القنوات الرسمية لنقل الجلسات بشكلٍ مباشر، وإلغاء بدعة «الجلسات السرية» لأن ما من سرٍّ يبقى بين أكثر من 250 شخصاً؛ لينتهي في السنوات القادمة بآليةٍ أكثر انفتاحاً في عملية الترشح وتبني الترشح للنواب القادمين تحديداً من الأحزاب التي تمتلك شعبية يُعتد بها. نحن أمام فرصةٍ لجعل هذا الحدث درساً يخاف منه كل من تسوّل نفسه التطاول على القانون إن امتلكنا الإرادة، وإلا سنعود للمثل القائل «كأنك يابو زيد ماغزيت»، لتجعلونا نكتشف أن ما كنا نتابعه في الأيام الماضية مجرد دراما تلفزيونية، سيتولى إخراجها مبدع كـ«نجدت أنزور».