فنانو العالم يجب أن يغنوا أعمال فيروز لا العكس … ميس حرب لـ«الوطن»: قبل الأزمة كانت الموسيقا للترفيه أما اليوم فهي ضرورة وأساسية في التربية
| سوسن صيداوي- «ت: طارق السعدوني»
سُمرة الأرض وبساطتها مع عطائها.. عناصر لم تبخل بها أمّنا الطبيعة، ولأنها كريمة، لفحت سمرتها، وفاضت بعناصرها على صبية، تلجأ إليها وتتأمل بحضرتها عندما تجالس سكونها، وجمال فصولها. ولا يكسر الصمت المتبادل بين الصبية وأمها الطبيعة إلا بضع نوتات موسيقية، تنسجم خلالها مع النسيم وزقزقة العصافير، متلونة بالقوة والحنو، وبين الشجن والفرح مع لون الأزهار وخضرة الأشجار. إنها سمراء الأرض ميس حرب. التي أحييت مؤخراً أمسية غنائية لمدة ساعة كاملة بعنوان «من قلبي سلام لفيروز»، قدمت خلالها مزيجاً من أغاني فيروز بألحان الأخوين رحباني، وفيلمون وهبي، وزياد الرحباني، وجاء البرنامج الغنائي متضمنا أغاني منها «فيلم أميركي طويل، سلملي عليه، وينن، كيفك إنت، أنا عندي حنين، ، قديش كان في ناس، عودك رنان». بمرافقة فرقة سيد درويش بقيادة رشيد هلال، على مسرح الأوبرا بدار الأسد للثقافة والفنون بدمشق. تجدر الإشارة إلى أن بطاقات الحفل نفدت منذ اليوم الأول، كما ستجول الفنانة ميس في معظم المدن السورية في الأشهر المقبلة لتقديم حفلات مشابهة، وأيضاً تشارك في ألبوم «في العالم» الذي يضم 20 أغنية من بلدان مختلفة، بأغنية «جوعان وعاري وحافي»، إلى جانب مغنيات من العالم العربي مثل عبير نعمة، وسعاد ماسي، وغالية بن علي. هذا ومن جهة أخرى ستستكمل في العام المقبل مشروعها «عشق» الذي انطلق الشهر الماضي في مدينة سوسة التونسية، وهو مشروع جماعي يحمل اسم «ملحنون من أجل السلام» يعتني بقصائد صوفية قديمة تحمل نكهة موسيقية مبتكرة. أما ألبومها الشخصي الأول «خيطان الشمس»، فقد تبنته شركة «يونيفرسال» لإطلاقه عالمياً.
صحيفة «الوطن» التقت الفنانة وإليكم الحوار…
هذا الحفل ليس الأول الذي تقدمينه تكريما للسيدة فيروز… في البداية كلمة منك لها؟
من المعروف بأن العاصمة التي غنّت لها السيدة فيروز أكثر من غيرها هي دمشق، ولهذا أهل الشام بشكل خاص والسوريون بشكل عام يحبونها أكثر من أي شعوب أخرى، هذا ومنحت فيروز على مدى عشرات السنين من عطائها، السلام بصوتها لكل العالم، والسلام لكل الإنسانية، وأتمنى أن أقدم من خلال الأمسيات الفيروزية جزءا من هذا السلام.
هل سمعت ألبوم فيروز الأخير؟ برأيك هل من الغلط ظهورها في هذا السن؟ وهل يحدّ تقدم العمر من العطاء؟
لقد سمعت الألبوم الأخير، ولكن لا أنا ولا غيري لنا الحق في تقييم ما قدمته السيدة فيروز، وحتى في ألبومها الأخير، ولكن لدي ملاحظة على هذا الموضوع، فأنا أرى بأن فناني العالم كلّه يجب أن يغنوا أعمال فيروز، لا أن تغني السيدة أعمالاً عالمية لغيرها، بل أرى بأن كلّ من في العالم يشرّفه أن يغني لها وللرحابنة. بصراحة وجدتها أكبر بكثير مما قدمته في الألبوم الأخير. ببساطة هذا هو تعقيبي حول الألبوم. وتتمة الإجابة عن السؤال.. طالما فيروز قادرة على العطاء مهما كان عمرها، فهذا أمر رائع، وبالفعل هي في كل مرة قادرة على إدهاشنا، وأشعر بأن اللـه منحها حبا كبيراً داخلها وطاقة عظيمة تعطي منها فنها وأغانيها.
الالتزم بفن العمالقة من لحن وكلام وأداء… ألا يصعب على الفنان الأمور ويقيده بعدم الاستسهال أو تقديم الأعمال الآنية أو التجارية؟
أنا أجد أن ما قدمه العمالقة القدماء من لحن وكلمة وأغان هو البحر الواسع، وأرى أن التقييد هو بتقديم الأمور التجارية والآنية، وأشعر بأن الطرب والموشح والطقطوقة والقصيدة وحتى الكلاسيك والشعبي هي بحور من الأنماط الموسيقية، التي تختلف كل منها عن الأخرى ولكنها تُغني الفنان كثيرا. بالفعل من الصعب الاختيار في هذا الزمن فما قدمه العمالقة بالماضي ليس من السهل تكراره، ولكن في نفس الوقت هناك أشخاص موجودون ويعملون بصمت، وهم مختلفون عن الأسماء التجارية المنتشرة في الأسواق، والذين لا يشبهونني أيضاً وهم ليسوا بتوجهي في الحياة. منذ بدايتي كان اختياري لشعر أول ألبوم جدّ صعب، لأن علي أن أختار ما يتناسب مع ما تربيت عليه في الموسيقا الشرقية. وبالفعل تكون الأمور صعبة، إلى حين تبلور فكر المرء وتوجهه ومعرفة ما الذي سيقدمه للناس، وعندما يعرف خياراته وما أفقه وما يطمح له، بالنتيجة سيصل إلى ما يريد والمادة التي يسعى إليها مهما كان الأمر صعبا.
وبالتالي الفن الملتزم أصعب؟
لا أعرف لماذا يجد الأشخاص هذا الأمر صعبا. أنا اخترت خطي الفني لأنني أحبه، وليس من السهل أن أنجرف مع التيار الذي لا يشبهني بتاتا، والمستحيل بالنسبة لي أن أغني ما ينتشر في الساحة حاليا. بالمقابل الفن الذي تربيت عليه واخترته، هو ما أستمتع به، وأجد نفسي يوماً بعد آخر بأنني محقة. هنا أريد الإشارة إلى فكرة بأن ما يلمسه المتلقي في هذا الأمر، هو عدم وصول الفنان إلى الشهرة بشكل سريع، وذلك لعدم وجود شركات منتجة تروّج لفنه وتسوّق لأعماله، ولكن في النهاية أنا أؤمن بأن المرء الذي يتمهل باتخاذ قراراته ويخطو خطواته ببطء سيكون متمكنا من قدراته وبالتالي سينجح وسيثبت نجاحه في طريقه حتى لو كان طويلا، وسيثّبت نفسه في المكان الذي يطمح إليه.
التعليم هو مهنة العطاء.. إلى جانب ما تقدمينه لطلابك. ماذا يضيف التعليم لميس حرب؟
بصراحة في التعليم الأستاذ يفيد ويستفيد، وحتى من دون أن ينتبه أو يشعر. عندما كنت طالبة في المعهد وحتى اللحظة، مازلت أقتدي بمدرستي الأستاذة والمغنية العالمية لبانة قنطار، لأنها كانت تعرف إمكانيات وقدرات طلابها وخصوصيتهم أيضا، وعلى هذا الأساس تقوم بمساعدتهم. وكانت لبانة تستفيد من خصوصيات الطلبة وتميّزهم، وبالتالي أصبحت أنا مثلها أستفيد من تلامذتي، هذا إلى جانب استفادتي من الأساتذة الكبار كسعاد محمد بحضورها الرصين بصوتها، وفيروز برهافة صوتها وإحساسها العميق، وأم كلثوم بقوة صوتها. وحتى لدي طالبة عمرها سبع سنوات وأنا باللاشعور ألتقط وأكتسب منها أمورا، وهذا في النهاية يدل على الفائدة والعطاء المتبادل بين الأستاذ وطلابه.
تربيت على أغاني التراث الشعبي والأغاني الفلكورية… إعادة توزيع هذه الأغاني وأداؤها من جديد إلى أي مدى يتطلب الحذر وخاصة أنها من الفنون القريبة لقلب الجماهير؟
صحيح.. وما نجده اليوم بأن الكثير من الأعمال التراثية يعاد توزيعها ولكن بشكل مستسهل وعلى آلة منفردة، على حين نحن عندما نقوم بتجديد هذا النوع من الأغاني، نتعامل معه كمادة غنية مع الكثير من الحذر، لأنها بحاجة إلى أشخاص قادرين على فهمها وعلى الاهتمام بخصوصيتها كي يظهرها بشكل لائق وجميل وكما هي من دون تشويهها، كي يزيدها جمالاً ويُغنيها، وهذا ما نقوم به نحن، وإن شاء اللـه في القريب سيكون هناك ألبوم كلّه عن التراث وسنقدمه بالأسلوب نفسه الذي عملنا فيه بأغنية «منهام القلب».
لماذا اختياراتك- منذ تقديمك لمشروع التخرج- ليست بالأمور السهلة.. حيث اخترت وما زلت القوالب الموسيقية الصعبة التي يندر غناؤها؟
لأنني منذ قدومي من قريتي لم أعرف إلا أغاني الفلكور وأغاني فيروز التي كانت والدتي تغنيها، إضافة لبعض أغاني فريد الأطرش التي كان يعزفها أبي، وعندما بدأت دراستي في المعهد لاحظت كم فاتني من الموسيقا العربية، الأمر الذي اضطرني للبحث بشكل مكثف عن عمالقتها وعن نتاجهم، وفي ذلك الوقت لم يكن هناك من إنترنت، وكنت أشتري الكاسيت وأبحث عند أشخاص لديهم مكتبات موسيقية وحتى أستعير منهم الكاسيت كي أسمع وأختار القوالب الصعبة وغير المنتشرة. وعندما كان الأساتذة يطلبون منا المشروع، كان الطلاب يقدمون المشاريع المنوّطة الجاهزة، على حين كنت أقدم المقطوعات التي تعجبني مهما كانت صعبة وغير منتشرة من الأغنيات الطربية والموشحات، والتي استغرقت من وقتي وجهدي الكثير وأنا أقوم بتنويطها، ورغم العذاب والتعب إلا أنني كنت دائماً أقنع نفسي بأنني سأستفيد موسيقيا، وصوتي سيتمرن على هذه القوالب وسأعوض ما فاتني، وبالتالي كنت أبحث دائماً عن الأصعب كي أقوي نفسي، هذا من جهة ومن جهة أخرى أنا لا أحب التقليد ولا المستهلك بل أحب التفرد بكل ما أقدمه.
شاركت في المسرح الغنائي في مسرحية «بانتظار البرابرة» ومسرحية»الطريق إلى الشمس»ماذا تعني لك هذه التجارب وهل ستكررينها؟
قدمنا مسرحية «بانتظار البرابرة» في عام 2008 من إخراج وليد القوتلي، وعرضناها في سورية ثم بمصر وبعدها عدنا وعرضناها في سورية، وهي كانت أول مسرحية أِشارك فيها وأولى تجربة لي، واستفدت منها كثيرا، ومن خلالها تعلمت كيف أقف على المسرح، وهو أمر ليس بالهين بتاتا بل يحتاج إلى تدريب، فلا يكفي أن يقف المغني ويغني من دون أخطاء بل هناك حضور يحتاج من جهده إلى خمسين بالمئة، وهذا النوع من التدريبات نحن نفتقده في منهاج المعهد، ويجب أن يقدّم كدرس للموسيقين والمغنين سواء، لأهمية وضرورة معرفة كيفية التعامل على خشبة المسرح سواء مع الحضور، وحتى في طريقة الظهور والوقوف والنظر، وللأسف هي أمور نكتسبها بشكل تلقائي من خلال المتابعة وتكرار الظهور على المسرح. وبالعودة إلى مشاركتي بالمسرحية، المشاركة هي التي مكنتني مما ذكرته قبل قليل، وجعلتني أكتسب ما فاتني، حيث منحنتي ثقة كبيرة، والذي ساعدني في هذا الموضوع، الممثل كفاح الخوص، الذي عمل كثيراً على شخصيتي، وأخرج مني ما بداخلي من أمور. بالطبع أحببت المسرح الغنائي كثيراً لأنه يخرجني من قالب المغنية والفرقة والحفل، وأتمنى أن نجدد هذه العروض في سورية قريباً.
عندما تؤدين أغاني ليست لك.. تغنيها بطريقة يجدها المستمع وكأنها أغنية جديدة.. ما رأيك بهذا؟
نعم حول هذا التفصيل قيل مرة عني: «ميس حرب تغير كثيراً، ولكنها لا تُشعرك بأن الأغنية تغيرت، على الرغم من أنها قدمتها بأسلوب وبطريقة جديدين». والسبب في ذلك ربما لأنني تربيت على أغاني الفلكلور وتأثرت كثيراً بصوت جدتي التي كانت تغنيه بالذات بحنو كبير وشعور رقيق يدفع كل من يسمعها إلى البكاء. هذا ومن الأمور التي استفدت منها كثيراً حين دخلت إلى المعهد، هي دراستي في البدابة بقسم الأوبرا، الأمر الذي أضاف إلى صوتي الكثير من التقنيات العالية في مساحات الصوت وغيّر ما فيه من أمور فطرية، لكن عندما تم افتتاح قسم الغناء الشرقي في المعهد، تابعت فيه، لأن هذا القسم هو ما أحبه وأيضاً متأصل فيّ، وتركت دراسة الأوبرا، وبالنتيجة دروس الغناء الغربي مكّنتي من العمل على مساحات صوتية واستطعت أن أمزج بين الشرقي والغربي، حتى يقال لي دائماً إنني قادرة على المزج بين صوت الصدر الذي هو صوت الغناء الشرقي وصوت الرأس وهو صوت غناء الأوبرا، وانتقل بين الإثنين بسهولة من دون أن يلاحظ أحد. وبالنسبة لي الأمر الذي يهمني كثيراً وأركز عليه في الغناء، أنا لا أحب التقليد وفي الوقت ذاته لا أحب أن أغيّر من روح الأغنية.
تتميزين باستحضارك للإحساس بطريقة تذّوب القلوب… ما طقوسك لإغناء إحساسك ومشاعرك؟
كثيرون يسألونني عن الحزن الكبير في صوتي وأدائي، أنا أسمع وأرى أكثر مما أتكلم، لا أحب الكلام بل أحب أن أعبّر عمّا بداخلي بالكتابة، وحتى مثلا إذا أردت أن أتكلم على المسرح فأنا من يكتب كلمتي. إذاً لهذا أجد من السهل عليّ ترجمة مشاعري حين البوح عبر صوتي بالغناء.
باعتبار أنه كان لك تجارب تلحينية هل من الممكن أن تتدخلي في اللحن الموضوع لأغنياتك؟
أحياناً أتدخل، لأنني أشعر بأن هناك أمرا يحتاج إلى تعديل، وبالمقابل هناك ألحان لا أقترب منها، وهنا أشير إلى أن الألحان التي قُدمت في ألبوم «خيطان الشمس» لم أتدخل فيها ربما لأنني لم أشعر بأنها بحاجة إلى أي تعديل، وبالمقابل قدمت فيه أغنيتين من ألحاني. في مشروع «عشق» الذي شاركت فيه في تونس، كان فيه عشرة فنانين من بلدان مختلفة من العالم، هنا في هذا المشروع كنت أقدم رأيي بالألحان أكثر، وخصوصاً لأن المشروع يجمع أنماطاً غريبة عني، يونانية وتونسية ومغربية، وبالتالي كنت أعطي رأيي بجملة لتكون شرقية أكثر أو أن تكون سورية وبالطبع كان رأيي يلاقي القبول.
الارتباط من شخص يعمل في المجال ذاته إلى أي مدى يُغني العلاقة؟ وهل تتدخلان أنت وزوجك الموسيقي رشيد هلال كل في أعمال الآخر؟
«ترد ضاحكة» حسبما إذا كنا نتحدث في أمور المنزل أو الأمور الأخرى.. و«تتابع» أنا لا أتدخل في عمل زوجي لأنه عبارة عن بروفات وحفلات وهناك التسجيلات في الاستديو، ولكنني أشير لأمر ما، عندما يقوم بالتقسيم على آلته، وبالطبع يسمعني أو يبرر لي عندما يتمسك برأيه. على حين ما نتشارك به هو حفلاتي وبالبرنامج الذي سأقدمه، أنا أختار ما يُخرج إحساسي وما أعبّر عنه، في حين هو يختار وينصحني دائماً بالاهتمام بما يرغبه الجمهور بوقع الأغاني عليهم، وفي النهاية نصل إلى نتيجة ترضي الطرفين. ما أريد تأكيده أنه عندما يكون الشريكان يعملان في المجال، من الطبيعي أن يختلفا أو يتفقا، والمركب يسير وبنجاح وخاصة أن الاثنين لهما الغاية نفسها والمسعى ذاته ولا أحد له هدف بأن يضع عائقاً في مسيرة الآخر.
نحن اليوم نقف في مرحلة النهوض ونفض غبار الحرب.. ماذا تقولين للسوريين وخاصة من حيث ضرورة الموسيقا ومحاربتها للإرهاب؟
الوسيلة الأسرع لكسب أي هدف نريده هي الفن، فالمسرح والموسيقا مع الأغاني هي أكثر شيء قادر على لمس قلب وفكر الجمهور، ولأنها مباشرة فهي تؤثر فيه أكثر من أي وسائل أخرى وأسرع من أي شيء آخر، لهذا من الضروري أن يكون هناك اهتمام بالفن. في الحروب والأزمات يكثر المسرح ويكثر الشعر ويكثر الإنتاج الإبداعي لكل أنواع الفنون، وفي سورية أنتجت دار الأوبرا عروضا ونشاطات كانت فعالة في الحرب أكثر بكثير من الأيام المستقرة والسابقة لها، كما برزت مجموعة كبيرة من الأشخاص الناجحين والمبدعين، وهناك أمر لابد من الإشارة إليه، لقد كنا قبل الأزمة نرى أن الموسيقا أمرا ترفيهيا، وخلالها واليوم بالذات تأكدنا من أنها شيء أساسي وضروري في الحياة والتربية، فبالموسيقا والثقافة تحارب الشعوب الإرهاب، وكذلك نحن السوريين أبناء الحضارة والشعب الذي يستحق الحياة.