العروبة تحت مجهر البحث!
| بسام أبو عبد الله
كثيراً ما جرى تناول فكرة «العروبة» خلال مرحلة ما سمي «الربيع العربي» من باب السخرية، والدعابة! وتولت قنوات فضائية ممولة خليجياً، وتدار بعقل صهيوني بريطاني أميركي على رأسها «الجزيرة» وعلى مدى سنوات، تدمير الفكر القومي العربي، وتحطيم القادة الذين ارتبط اسمهم وتاريخهم بالمشروع النهوضي العربي، فلو عدنا فقط إلى الأرشيف لوجدنا أن برامج معدة بعناية، جرى ضخها خلال فترة التحضير لتفتيت المنطقة، استهدفت شخصيات شكلت رمزية لأجيال عربية مثل الرئيسين الراحلين جمال عبد الناصر وحافظ الأسد، وغيره الكثير من البرامج التي هدفت أولاً لإسقاط الرموز وشيطنتها، تمهيداً لاستيلاد رموز جديدة وشخصيات بديلة تحت شعارات براقة مثل «الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان».
لا شك هنا أن المنظومة الرجعية العربية كانت، وما زالت تحارب الفكر القومي العربي، وتتفق مع قوى الهيمنة العالمية على تدمير ومحاربة أي مشروع نهضوي عربي بدءاً من عبد الناصر، وانتهاء بالرئيس بشار الأسد.
أي مشروع عروبي تحرري حقيقي سيشكل إحراجاً لها، وتحدياً في الوقت ذاته، وما يثير الانتباه أن «الربيع العربي» لم يستهدف إلا الجمهوريات العربية، بينما لم يقترب من الأنظمة التي تعيش في القرون الوسطى، على الرغم من أن الشعارات التي أطلقت في بداية هذا «الربيع» يفترض أن تشمل هذه المحميات قبل غيرها.
مقدمة الحديث عن هذا الموضوع ترتبط باللقاء الذي أجراه الرئيس بشار الأسد مع المشاركين بـ«الملتقى العربي لمواجهة الحلف الأميركي الصهيوني الرجعي، ودعم مقاومة الشعب الفلسطيني» بتاريخ 14 تشرين الثاني الماضي، وكان لي الشرف أن أكون من عداد الحاضرين في هذا اللقاء، ومن واجبي تجاه الرأي العام أن أنقل انطباعاتي عن هذا الحديث، فالرئيس الأسد شخص الواقع بالنقاط التالية:
1- نحن أمام واقع عربي صعب، لا يستعيد ألقه بالبيانات السياسية المنمقة، ولا بندب الحظ المتعثر، أو بالحديث عن الأمجاد، إنما بالوقوف أمام قضية ليست سطحية، ولا عابرة، فالغرب كان بارعاً في نصب الأفخاخ، ونحن كنا بارعين في السقوط فيها!
2- لقد بُنيت المشاريع والرؤى القومية على العواطف، وردود الأفعال، من دون تخطيط مدروس، واستراتيجي فكنا منفعلين ولسنا فاعلين، وعلينا أن ندرك أننا بحاجة لرؤية شاملة وعميقة متضمنة الاعتراف بالأخطاء، والنقد الذاتي، وتجاوز العنتريات باتجاه فكر يتمتع بثلاث مزايا أساسية وهي: المنهجية والتنظيم والفكر الواقعي.
3- تحدث الرئيس الأسد عن مجموعة من العقبات التي لابد من معالجها لكي تتم عملية إعادة الألق للفكر القومي الذي هو انتماء طبيعي، ومن هذه العقبات:
– ضرب علاقة الإسلام مع العروبة.
– وضع القومية العربية في مواجهة قوميات أخرى.
– الأداء السياسي السيئ للدول العربية، والمعادي لمصالح الشعب العربي قبل الحرب، والخطأ في عدم التمييز بين الانتماء لهوية، والانتماء لنظام سياسي.
– اتهام العروبة بأنها مرادفة للتخلف، مع بروز العولمة، والقول إن أي طرح قومي، هو طرح متخلف.
– غياب الجوانب غير السياسية في عملنا القومي، ومنها إهمال الحوار مع الكثير من أبناء المجتمع الذين ينتمون للعروبة بشكل غريزي، لكنهم لا يتفقون معنا سياسياً، ولديهم رؤية سياسية أخرى.
– ظهور علائم ضعف بالنسبة لاستخدام الجيل اليافع للغة العربية، فالعروبة حالة حضارية، وأهم شيء فيها الثقافة التي تحملها والثقافة تعبر عنها اللغة، وعندما يفقد الجيل اللغة يفقد الارتباط ويصبح في حالة غربة عن الثقافة التي ينتمي إليها.
وإذا كنت أفهم ما طُرح من قبل الرئيس الأسد من نقاط مهمة وشفافة، وواقعية، وأريد تطبيقها على واقع الأحزاب القومية، والتيارات السياسية فإنني سأحاول هنا أن أتناول بطريقة ناقدة مقاربة البعثيين السوريين، والأفضل مصطلح «الحزبيين» لهذه المسائل من حيث التطبيق، والممارسة لمحاولة الوصول إلى نتائج، وخلاصات مفيدة منها مثلاً:
1- لقد طرح قياديون حزبيون في مرحلة من المراحل ضرورة تنسيب أعداد كبيرة من الأعضاء إلى حزب البعث، وكان هذا الأمر مثار جدلٍ داخل الأوساط البعثية ومع ذلك طبق هذا التوجه فأنتج جسماً مترهلاً بملايين المنتسبين الذين للأسف لم نجدهم حينما دعت الحاجة لذلك، لا بل إن قسماً لا بأس به تحول إلى مذهبي وطائفي، و«ثورجي» يعمل بالأجرة عند الطلب، وهو ما يؤشر إلى أنه كان لدينا القدرة على تفريخ مسؤولين بالآلاف، ولكننا لم نستطع إخراج مفكرين وفلاسفة للحزب يطورون فكره، ومنطلقاته النظرية التي قال عنها الرئيس الأسد إن الزمن تجاوزها، وتعود للستينيات، والسبب أن كثيرين حولوا الحزب إلى سلم للوصول للسلطة والمنصب، من دون أن يكون هناك مشروع نهضوي له رموزه وقياداته ويعمل مع جيل الشباب الذي ينتمي لثورة المعلومات والإنترنت، مقابل قيادات تخاطبه بلغة الستينيات والسبعينيات.
2- لقد نسي الكثير من البعثيين دستور حزب البعث، الذي ركز في مبادئه الأساسية على قضايا تناولها الرئيس الأسد في خطابه، وكأنني أشعر أنه أراد أن يقول: عودوا لفكر البعث الأساسي فدستور حزب البعث تحدث عن الوطن العربي كجغرافيا يتكامل بعضها مع بعضٍ، ولا تتجزأ، ولكنه عندما تحدث عن الأمة العربية أشار للوحدة الثقافية في المبدأ الأول، أي للعروبة كحالة حضارية ثقافية، وترجمها في المبدأ الثالث بالقول: إن رسالة الأمة العربية تظهر بأشكال متجددة، متكاملة، وتهدف إلى تجديد القيم الإنسانية، وحفز التقدم البشري، وتنمية الانسجام والتعاون بين الأمم، إضافة إلى إقراره أن الإنسانية مجموع متضامن في مصلحته، مشترك في قيمه، وحضارته، فالعرب يتغذون من الحضارة العالمية، ويغذونها، ويمدون يد الإخاء للأمم الأخرى، ويتعاونون معها على إيجاد نظم عادلة تضمن لجميع الشعوب الرفاهية، والسمو في الخلق والروح.
لقد تقصدت أن أذكر هذا التفصيل لأوضح أن أولئك الذين ذهبوا باتجاه أخذ العروبة نحو الحالة التعصبية، والمنغلقة والنمط البدوي الصحراوي، لا علاقة لهم بفكر البعث الذي ركز على البعد الحضاري الإنساني العالمي، فما بالنا بالقوميات الأخرى مثل الفرس والأتراك، والأكراد وغيرهم، فالعلاقة مع الجوار علاقة تفاعلية تكاملية لا ينفي أحد الآخر، كما حاول صدام حسين قيادة العروبة نحو حرب عربية فارسية في قادسية السنوات الثماني، فأنتجت للمنطقة كارثة حقيقية، وكراهية، وحقداً لم يستفد منها سوى أعداء العرب والفرس، والآن أدرك منظرو العثمانية الجديدة أنهم مستهدفون كغيرهم بالتقسيم، ولذلك يحاولون الاقتراب أكثر من شعوب المنطقة العرب في سورية والعراق، وإيران لأن حماية المنطقة هي بالتكامل والتضامن لمصلحة شعوب المنطقة ومستقبلها.
3- لقد أكد دستور البعث أن «قابلية التجدد، والانبعاث لدى العرب تتناسب دوماً مع نمو حرية الفرد، ومدى الانسجام بين تطوره، والمصلحة القومية»، وهو ما يشير بوضوح إلى الإيمان بالديمقراطية، والحريات الفردية، الأمر الذي أبرزه الرئيس الأسد بالقول: إن الديمقراطية حاجة ضرورية جداً لمستقبل سورية، لكن شرط أن ترتبط بالوطنية والقومية، أي بمصالح الشعب، وبالبعد العروبي القومي.
4- لقد ارتكب حزبيون خطأ استراتيجيا لفترة طويلة من الزمن، وهو ربط كل مفاصل الدولة بحزب البعث، ما أدى إلى تسلل الانتهازيين، وتسلقهم لمواقع القرار المختلفة باسم حزب البعث من دون أن يشكلوا قيمة مضافة سياسية، أو فكرية أو إدارية، ما أدى لاستبعاد الكثير من الكوادر الوطنية في مرحلة ما تحت لافتة أنهم غير حزبيين، أو جرى تنسيب شخصيات أخرى للحزب بين ليلة وضحاها لتصبح مؤهلة لتسلم هذا المنصب أو ذاك، وهو ما حول الحزب إلى جسر يمر عليه كثيرون من دون أن يساهموا في تمتينه، أو تقويته ليتحول البعثي والحزبي في بداية العدوان على سورية إلى سبة، وشتيمة، مع تحميله كل الموبقات، على الرغم من أن كثيرين ممن انقلبوا عليه كان يزايدون بخطاب عروبي، قومي، نضالي، بعثي على الجميع، ويبعدون أي عقل مفكر أو ناقد.
لقد أشار دستور البعث بوضوح في المبدأ الثاني إلى أن قيمة المواطنين تقدر، ولم يُقل قيمة الحزبين أو البعثيين، بعد منحهم فرصاً متكافئة، حسب العمل الذي يقومون به في سبيل تقدم الأمة العربية، وازدهارها من دون النظر لأي اعتبار آخر!
ومن ثم: هنا تعالج هذه الفقرة موضوع الابتعاد عن شرائح واسعة في مجتمعاتنا، وفي عملنا القومي، وإهمالنا للحوار مع الكثير من أبناء المجتمع الذين ينتمون للعروبة غريزياً، ولكنهم يختلفون معنا سياسياً، والكلام للرئيس الأسد، بمعنى آخر لم يركز البعث في دستوره على الحزبين إنما على المواطنين، وحدد قيمتهم بعملهم، ومساهمتهم أي الطبية، الفكرية، الفنية، السياسية، الثقافية.. الخ، وليس بالانتماء للحزب الذي دفع كثيرين ومن دون قناعة للانتساب شكلياً، من دون إيمان بالمضمون، وهذا خيار سياسي كان يفترض أن يكون المواطن فيه حراً.
إن الربط بين مقاربة الرئيس الأسد، ودستور حزب البعث هدفها إظهار أن الرئيس يريد إحياء العروبة كمشروع حضاري ثقافي منفتح إنسانياً، يأخذ ويعطي، ويتفاعل مع محيطه المحلي والإقليمي والعالمي بشكل إيجابي، وباستخدام أدوات العصر أي البيئة الديمقراطية المنتمية وطنياً وقومياً، والحرية المسؤولة التي يستطيع الإنسان بدءاً من الحزب وباتجاه المجتمع، أن يرتقي بمشروع عروبي حضاري يستخدم أدوات القوة الناعمة، وليس بمشروع تعصبي منغلق يحاور نفسه بنفسه، ويعتقد أنه الأفضل.
نحن أمام تحدي إعادة قراءة التجربة وتحديد نقاط القوة والضعف، وبناء مشروع نهضوي عربي تقوده سورية، وأعتقد أن البعث وقوى وطنية واسعة هي القاطرة المؤهلة لهذه المهمة بمنهجية وتنظيم وواقعية، وعلى ما يبدو فإن بعض الرجعيين العرب يريدون المتاجرة قريباً بالعروبة، بعد أن استهلكوا الإسلام بطوائفه ومذاهبه.
المهمة جدية، والتحدي كبير.