عام على تحريرِ حلب: عندما يصبح التاريخ سطراً من سطورها
| فراس عزيز ديب
عامٌ على النصرِ في حلب؛ هنا عليكَ أن تضعَ الأحداثِ المملة جانباً، وتأخذ لنفسكَ قسطاً من الراحة في محرابِ صناعةِ التاريخ، لكن أي تاريخ؟ هو حكماً ليس ذاكَ التاريخ الذي خطَّهُ كتَبةُ السلاطين، فمن قال لكم إن «أقلام البترودولار» ليست سابقةً للثورةِ النفطيةِ بقرون، جعلتنا نقول لكل مزوريهِ: لنا تاريخنا ولكم تاريخكم، كيف لا و«شجعان هذا العصر»، أسقطوا كل التواريخ وبات العالم أجمع يضبط توقيتهِ على توقيت الجيش العربي السوري وحلفائه.
بالعودةِ للذاكرة، وعندَ الأسابيع الأولى من اندلاع التضليل الإعلامي في سورية الذي سمي زوراً بـ«ثورة الكرامة»، كنا كأي سوريين في الداخل أو في المغترب، نترقب الأخبار والعواجل من هنا وهناك، إلى أن جاءَ يوماً ونشرَ فيهِ أحد المواقعِ الإخبارية التابع لأهم محطةٍ تخصصت في «صناعة الكذب» وتورطت بدماء الأبرياء، خبراً عاجلاً عن اندلاعِ مظاهراتٍ في أحد أحياءِ مدينة حلب، أعدت قراءةَ العاجل مراتٍ عديدة، هذا حينا وملعب الطفولة، أعرفه حجراً حجراً، فرداً فرداً، وبطريقة متسارعة تراءت أمام ناظري صورة «أم جورج» وقد اجتمعت بـ«أم خالد» ليواعدن والدتي كي ينسِّقن جميعهن مظاهرتهن ضد «النظام»، ماذا يجري تساءلتُ في نفسي تُرى هل حقاً أن «أبا هاروت» أخبر «أبا بانكين» بأن «أبا تامبي» جهز الشعارات واللافتات التي سيرفعها أهل الحي في المظاهرة ضد النظام؟! عندما تثِق بمحيطك الذي ولدتَ فيه، والوجوه التي هي بالنسبةِ لك بمثابةِ عائلة، يصبح من العبث بوجدان ذاكرتك أن تُقدم على الاتصال لتتأكدَ من الحقيقة، فالحقيقة بالنسبة لك ليست ما يحاولون أن يزرعوه في ذاكرتك، بل ما يحاولون أن يسحبوه، لأن هكذا ولوج بمحور الشك هو بالنهاية انتهاك لثقتك بهذا المحيط، بل إن هذه الثقة بهذا الشعب جعلتنا من دون مواربةٍ نذهب لفكرة أن القادم من أكاذيب أسوأ لأنها ببساطة، حلب.
منذ سقوط تدمر الأول بيد إرهابيي داعش صيفَ عام 2015، روج الحلف المعادي لسورية مصطلح «سورية المفيدة»، وأراد لهُ أن يكون مصطلحاً يشكل أرضية لتقسيم ولو عاطفياً في عواطف الشعب السوري، كأن يقول البعض مثلاً ولماذا يستشهد جنودنا من أجل صحراء اسمها تدمر؟! لكن هناك مصطلح ربما سبق هذا المصطلح جرى ترويجهُ في الإعلام من منطلق تقسيم المدن السورية بين ما هي هامة أو ليست هامة، وحتى من وقع في فخ هكذا مصطلح عن حسنِ نيةٍ، تجاهل ببساطةٍ أن الجغرافية السورية معطوفة على الدورةِ الاقتصادية، تجعلك لا تستثني محافظةً ما من صفةِ الأهمية، فمثلاً خسارة حمص تعني قطع الشريان الواصل بين اتجاهات الوطن الأربع، أما دير الزور والحسكة والرقة فلا يمثلون حالةً «جيوبولوتيكية» فحسب لكنهم منجم زراعي ونفطي لا يمكن تجاهله، أما فقدان السيطرة على القنيطرة أو درعا والسويداء فالقضية لا تتعلق فقط بخسارةِ خزانٍ بشري أثرى الحالة السورية فكراً وعلماً وحضارة، لكنك بذات الوقت ستخسر خط دفاعك الأول عن وجودك في وجه عدوك الأصيل وليس الوكيل، وتشرِّع أبواب العاصمة لهم، وهذا ينسحب على باقي المدن السورية التي لا تخلو من جوانب متعددة الأهمية، لكن ربما ما ميز حلب ليس مصطلح الأهمية بقدر ما هو مصطلح «تنوع الأهمية»، وهذا التنوع جاء نتيجة اكتسابها «أهميات» قد تتفوق من حيث العدد فقط عن باقي المحافظات وقد نختصره بعبارة: من أراد السيطرة على حلب أراد أولاً وأخيراً تجويع سورية.
ربما قد يرى البعض هذا المصطلح مبالغاً به، لكن كل من يعرف تنوع مصادر الاقتصاد الذي كانت تمثلهُ حلب وما يدعم منها الناتج الوطني يعي تماماً ماذا نقول، من جهةٍ ثانية فإن المدينة كانت محطَّ أنظار المتربصين بسورية، ليس فقط من حاول منهم أن يستنسخ تجربتها مع إرهاب الإخوان المسلمين في ثمانينيات القرن الماضي، لكن هناك ما هو أهم، أي الذين يتعاطون مع حلب وكأن لهم معها ثأراً صناعياً واقتصادياً، فالمدينة كما الموصل في العراق شكلتا خزاناً مالياً لسلطنةِ الإجرام العثمانية بعد أن احتلتهما، أما من الناحية الصناعية فكانت المدينة ولا تزال بما تمتلكه من أيدٍ خبيرة وماهرة في كل أنواع الصناعات، تشكل كابوساً لأحفاد سلطنة الإجرام العثمانية.
تلك «الأهميات» التي تمتعت بها المدينة جعلتها هدفاً لتكونَ جسرَ عبورٍ لتركيع سورية بالكامل، وقد نتفق مع الرأي القائل بأن ما حدث لحلب من دمارٍ وحصارٍ، هو أسوأ ما حدث لمدينة ما منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أي أن فاتورة الصمود تعكس تماماً حجم ما كان يخطط لها في الملف السوري، أي إن المدينة ظُلمت مرتين، في الأولى عندما طعنها من أكل على موائدها، والثانية عندما كان كل ما يجري على أرضها من إجرامٍ محللاً عند من كانوا يسوِّقون لهذا الإجرام بأنه «ثورة كرامة»، ويبقى السؤال بعد عامٍ على تحريرها، ليس ممن يسمونهم «العصابات الإرهابية» بل تحريرها من أيدي «الناتو» بشكلٍ عام، هل إن المدينة لا تزال مكانك راوح لتهرب من دلف الإرهاب، وتقع في مزراب الإهمال وانعدام الخدمات، أم إن المدينة التي عُرفت بالمدينة التي لا تنام، نهضت من تحت الغبار وأعلنتها حرباً ضد الدمار؟
للإجابة على هذا السؤال وفق ما لدينا من معطيات وردود أفعال شعبية، لنتذكر أولاً أنه وقبل اندلاع الحرب في سورية كان العديد من السوريين يطرحون سؤالاً نراه منطقياً: ما الفكرة من تعيين محافظين من خارج المحافظة؟ التساؤل كان مرتبطاً ببديهية أن ابن المدينة كان ولا يزال أدرى بمشاكلها وطريقة التعاطي مع أولوياتها الخدمية، لكن ومع استمرارِ الحرب وحصار حلب، كسرت المدينة هذا التقليد عبر تعيين محافظَيْن اثنين من أبناء المدينة، وربما أن كلا التجربتين كانتا أشبهَ بالكابوس الذي أرَّق سكانها الصامدين لدرجةٍ كنت تشعر بمن تحادثهم وكأنهم يقولون لك «فوق الإرهاب.. عصة قبر»؛ فلا خدمات ولا متابعة والتجاوزات كانت مؤرقة لكل من هم في المدينة، والقضية بالمناسبة لم يكن لها علاقة بالوضع الأمني لأننا نتحدث عن معاناة بأصغر الحقوق. لكن يبدو الحال اليوم تبدل مع المحافظ الحالي اللواء أحمد حسين دياب، الذي نسف فرضية أن ابن المدينة «أدرى بشعابها» لينقلنا لفكرة أهم بأن من يبحث عن الانجاز عليه أن يعمل، إذ أنه وضمن الإمكانات المتاحة تبدو الحالة الشعبية وقد تجاوزت فكرة «الارتياح» وصولاً لمرحلة الرضى التام لأدائه، فالرجل بدَّل الإطار التقليدي للفكرة المأخوذة عن المحافظين، هذا التبديل كان باقتران القول بالعمل، وليس من باب «البهورة الإعلامية» كما يفعل غيره من مسؤولين، أي بالمتابعة لكل التفاصيل ومحاولة إيجاد الحلول السريعة في أدق التفاصيل الخدمية التي كان المواطن الحلبي يراها قبل أعوامٍ ربما «ترفٌ من عملِ الشيطان فلا تطالبوا به»، هنا ننقل الآراء الشعبية بكل أمانة، لهدفٍ واحدٍ فقطٍ وهو سؤال من قام بترشيحه وتسميته أو تعيينه: إذا كان هناك إجماع شعبي قلَّ نظيره على محبةِ واحترام عمل هذا الرجل في حلب، فلماذا لا تكون اختياراتكم وترشيحاتكم بذات السوية دائماً، ولماذا التأخر بإقالة المقصرين بواجباتهم واستبدالهم فعلياً بمن يفهمون أن المنصب خدمة للمواطن، وليس للتحكم بمصير الوطن والمواطن؟!
إذاً وبعد عامٍ على التحرير فإنه يمكننا القول: إن انطلاقة حلب المتجددة بدأت، وعجلة الحياة والإعمار لا يبدو أنها ستتوقف، لكن لا يخلو الأمر أبداً من وجود بعض المشاكل التي يبدو بعضها خارج إمكانيات السلطة التنفيذية في المدينة، كاستكمال عودة أهالي الشيخ مقصود وبستان الباشا وغيرها من المناطق التي تسيطر عليها ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية، وهناك مشاكل تتعلق بآليات تسريع عودة العجلة الاقتصادية والصناعية في المدينة، لكن وإن كنا نركز على المطالب اليومية والحياتية فلابد لنا أن نفكر بالمطالب المعنوية، فالجميع اعترف أن صمود حلب وانتصارها بدل وجه المعركة تماماً، لذلك فإن توثيق هذا الصمود يجب أن يكون بشكلٍ أكثر فاعلية، ففي كل حي ومبنى وعائلة هناك حكايات عن صمود هذا الشعب والتوثيق ليس مرتبطاً فقط بصمود الحاميات العسكرية وغيرها لأن كل من بقي في المدينة بالنهاية هو حامية عسكرية بحد ذاتها، ولنتعلم ممن نقشوا يوماً على حجارتها أنهم لم يهدفوا من هذا النقش أن يتحفونا بفنهم بقدر ما هدفوا أن يقولوا لكل من جاء بعدهم: انقشوا صمودكم على حجارتها فالتاريخ لا يحكي عن حلب، الأدق أن التاريخ هو سطر من السطور التي نقشها أجدادنا على حجارة حلب.