الموسيقي المجري بيلا بارتوك .. عبقري الموسيقا الكلاسيكية في القرن العشرين
| إدريس مراد
الموسيقي المجري بيلا بارتوك من عباقرة الموسيقا في القرن العشرين، لخصوصية أسلوبه بتأليف الموسيقا، وذلك عبر معرفته العميقة بالثقافة الموسيقية الأوروبية وفي عمق صلته بموسيقا بلاده، وتالياً قدم أعمالاً ذات خيال خصب وتعبير نبيل، لتكون من أميز وأجمل ما في القرن العشرين، وبها أوصل موسيقا بلاده إلى العالمية. عموماً رغم دراسته الأكاديمية ولكن نستطيع القول إن غنى أعماله تعود إلى ارتباطه الوثيق بالموسيقا الشعبية.
كتب بارتوك العديد من الأوبرات منها «قصر الدوق ذي اللحية الزرقاء» وهو عمل يجمع صفات الأوبرا والآوراتوريو، كتبه الشاعر بالاس ليحوله إلى دراما ويحمل الكثير من الرموز والتأويلات والتراجيديا، وموسيقاه مكتوبة بطريقة درامية يعتمد على التلوين بحبكة بارعة، أما الغناء فهو جزء لا يتجزأ من الموسيقا. ومن أعماله أيضاً كونشيرتو البيانو الأول ويعد أحد الأعمال الصعبة حيث يحتاج إلى مهارات عالية في العزف ولا سيما في سرعة الحركة والحالة الزمنية في العلامة الموسيقية ودقة المضمون، ويحاول بارتوك فيه السيطرة على كل شيء حتى من ناحية الإيقاع، هنا في هذا العمل الآلات الإيقاعية لحنية، بل يستخدم ألوان الآلات الإيقاعية المختلفة، ليخلق عالماً صوتياً مختلفاُ، وحواراً فريداً بين هذه الآلات والبيانو.
ومن مؤلفاته الكبيرة نذكر أيضاً المجلدات الستة لمقطوعات البيانو باسم «العالم الصغير» التي اشتغل عليها ما يقرب من خمسين عاماً بين عامي 1926 إلى 1973، وتعد مرجعاً معاصراً لأهم التجديدات المقامية والإيقاعية والهارمونية والكنترابنطية، ليس في موسيقا بارتوك فقط بل في موسيقا القرن العشرين، وتعتمد على عناصر شعبية تناولها بخيال بارع. وركز فيه خلاصة خبراته الطويلة كمعلم للبيانو وباحث تراثي ومؤلف، ويضم 153 قطعة مقسمة على ستة أجزاء.
أما عمله موسيقا للوتريات وآلات الإيقاع والشلستا الذي أنجزه عام 1936 فحقق فيها سيطرة كاملة على هذه الآلات وتجلت فيها أنضج سمات أسلوبه وخاصة النسيج البوليفوني والرنين الموسيقي.
ليس غريباً بأنه تمت دعوة بيلا بارتوك إلى مؤتمر العربي للموسيقا عام 1932 في القاهرة حيث تولى رئيس لجنة التسجيل فيه، لأنه كان مطلعاً على الموسيقا العربية على إثر رحلاته في بعض دول لغة الضاد منها واحة بسكرة في الجزائر وقام بجمع موسيقاها الشعبية من أفواه الفلاحين، وكبار السن ليصل إلى خلاصة الأغنية التراثية من دون أي تشويه، وفعل الأمر ذاته في تركيا وبلغاريا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا وأوكرانيا واليونان وألبانيا.
لقد وجد بارتوك أن الطريق إلى التحرر من التونالية التقليدية يكمن في الاستعانة بخامات الموسيقا الفلكلورية في رومانيا والمجر وبلغاريا التي لم تتأثر بأي مؤثر خارجي يفسد أصالتها وقد وجد فيها عناصر موسيقية متميزة كالمقامات القديمة والإيقاعات المتحررة، عول عليها في تطعيم مؤلفاته بلون جديد برزت فيه شخصيته، وما فعله هذا الموسيقي بالموسيقا الفلكلورية يناقض ما كان شائعاً في المدارس القومية الرومانتيكية التي تناولت الموسيقا الشعبية بالتعديل والتحوير حتى تصبح ملائمة لشخصية الموسيقا الفنية للتونالية التقليدية.
ولد بيلا بارتوك في بلدة صغيرة في المجر عام 1881، كان والده عاشقاً للموسيقا الذي أسس أوركسترا للهواة وعزف فيه على آلة التشيللو، وعندما توفي وبارتوك في الثامنة من عمره، اضطرت والدته أن تعمل بالتدريس في مدن مختلفة، ما أتاح له وهو صغير التعرف على الموسيقا الشعبية لبلاده، ومن ثم درس البيانو، وفي التاسعة من عمره كتب مقطوعات صغيرة للبيانو، وبدأ دراسته الجدية عام 1893 في براتسلافا، وحين وصل إلى الثامنة عشرة من عمره كان قد تعرف على موسيقات عديدة منها موسيقا باخ وبرامز وفاغنر، وبعدها أتم دراسته في أكاديمية بودابست ودرس التأليف أيضاً على يد كوسلر، وعُين أستاذاً للبيانو في المعهد ذاته عام 1907، توفي عام 1945 تاركاً خلفه عدداً لا يحصى من الأعمال الموسيقية، أصبحت مثالاً ومصدراً مهماً لكل من يريد أن يعمل على موسيقاه الشعبية ويحولها إلى لغة عالمية صالحة لكل زمان ومكان.