السهرات الدمشقية أيام زمان
| منير كيال
قبل أن ينفرط عقد الأسرة التقليدية، ويلهث أفرادها وراء لقمة العيش، كانت الأسرة الدمشقية أشبه بالقبيلة تضم: الجد والأب والأحفاد وزوجاتهم وأولادهم يأكلون من طبخة واحدة، ويعيشون بدار واحدة السعد فيها دار، والسعادة ترفرف على الجميع بنعيم يضم محبة مطلقة، واحتراماً متبادلاً يسود الجميع.. ويشكرون الله على ما أعطاهم فبالشكر تدوم النعم.
أيام زمان، وقبل أن يطل المذياع والتلفزيون كان الرجال يقضون سهراتهم، بليالي الشتاء بالاختلاف إلى المقاهي للاستماع إلى قصة من القصص التي يرويها الحكواتي، عن عنترة بن شداد، أو الزير سالم، أو سير الملك سيف بن ذي يزن، وعلي الزيبق المصري، وأبو زيد الهلالي… تلك القصص التي تبث الشجاعة والكرم والألفة والوفاء والحمية وما إلى ذلك من المروءة والجرأة، وحفظ الذمم ورعاية الجار، وما يخالف أولئك الأبطال من المناوئين الذين يتصفون بالكذب والبخل والخيانة والغدر والنكث بالعهد.. إلى آخر ما هنالك من المفاسد التي يتصف بها الأشرار، ويحرص الناس على النأي عنها، ويستقبحون أي سلوك من هذا القبيل.
وبالطبع فقد كان من الرجال من يفضل سماع أو أداء بابة (مسرحية) من بابات خيال الظل وأخذ العظة من المقالب والإشكالات التي تحدث بين الناس وما تؤول إليه من صفاء وتحاب على لسان شخوص هذا المسرح من كركوز إلى عيواظ فبكري مصطفى فالعجوز الشمطاء والمدلل بما يمثل كل واحد منهم من نزوات وما ينبغي أن يكون بينهم من تعامل.. لدرجة يمكن فيها القول إن مسرح الظل يحكي حياة الناس وما ينبغي أن يكون فضلاً عن ذلك فإن من الرجال من كان يفضل قضاء السهرة مع أسرته وأقاربه بجو من الصفاء والتواد والمرح بعيداً عن إشكالات الحياة على تعددها لدرجة تكاد تكون هذه بمن فيها عالماً آخر ملؤه المرح والحبور وبلا ناقد أو منقود على مبدأ صافي يا لبن.
وتسهر نسوة تلك الدار، ومن معهن أو إليهن من النسوة الأقارب بغرفة من غرف المنزل يتحلقن حول منقل (موقد) النار المتقد بجمر الفحم والدقّ، ويستضئن بضوء الكاز (الكيروسين) المعلق بمسمار على جدار الغرفة التي يسهرن فيها وقد غرس بجانب المنقل المذكور ركوة (دولة) القهوة، وقد يوضع فوق ذلك الجمر المتقد منصب يضعن عليه إبريق الشاي، وفي تلك السهرات من يلعبن لعبة البرسيس، أو لعبة أخرى من ألعاب ورق الشدة، كالباصرة والمحبوسة وأبي الفول، على حين يقضي من تبقى من الساهرات السهرة بالتفرج على تلك الألعاب، ومنهن من تنحاز إلى هذه اللاعبة أو تلك، وهنا يقمن بتناول المكسرات من القضامة والبزر وفستق العبيد.
كما أن منهن من يقضين جانباً من هذه السهرة بسماع حكاية من الحكايات الشعبية التي ترويها الجدّة أو من كانت متقدمة بالسن (العمر) ومن ذلك حكاية ست الحسن وحكاية دردار من كيد النساء دردار، أو حكاية سريابا.. وغير ذلك كثير مما أوردناه بكتابنا حكايات دمشقية. ومنهن من يعمدن إلى التباري بالأمثال والأقوال بل الحزازير (الأحاجي) والمواويل، وقد يتندرن بالنكات، وذكر أخبار السلف، ولا ينسين التحدث عن إحدى الغائبات عن السهرة بما يعرف المقلاية فيعمدن إلى إلصاق ما يخطر على بالهن من مساوئ ومهازل بها ولا يتركن الحديث عنها حتى تتشلفط كما يقولون.
ومن ثم فإنهن يهملن ما لهذه التي تتشلفط من محاسن، أما الأحاجي (الحزازير) فحدث ولا حرج عن تلك الأحاجي التي إن دلت على شيء فإنها تدل على ما كانت عليه من مهارة في فن القول والمشاعر، والإحساس بما حولها مما تنبت الأرض وتثمر الشجر، وما حولها من سهل وجبل، فترى من هذه الحزازير ما هو من المأكول والمنظور بوقع أدبي قلّ أمثاله لدى الكثير من ممارسي الأدب.
ونذكر من ذلك أحجية العجين التي تقول:
بصلنا زمّط كلّه
وإن كان عاشق بلّه
وشمر على زنودك
وانزيل بعزمك كلّه
وعن الشمس أحجبة تقول:
سكينتي ذهبية
عالحيط مرمية
كل شي فيها
ما بقدر خبيها
ومنهن بهذه السهرة من تفصل السمرة فتقابلها من تحب بياض البشرة فيقلن ويتبارين حول ذلك.
فتقول من تحب السمرة:
يا أسمر السمر يا ما عيرني فيك
أنت القمر بالسما وأنا النجوم بحويك
أنت الورد عالشجر وأنا الزلال يرويك
أنت حشيشة القلب وأنا ما بفرط فيك
فترد عليها من تفضل بياض البشرة بأقوال لا تقل إبداعاً بقولها:
يا ما أحسن البيض إذا خطروا عالمكشوف
بيخلوا الشب يللي ماله نظر يشوف
والبيض سكر مكرر بالحرير ملفوف
ويستمر الحوار على هذا النحو إلى أن تصلا إلى قول يرضي الجميع ويجمع بين النظرتين بقولهما:
أحب الأبيض لأن الورد بخدوده
وأحب الأسمر لأنه ناعس الأجفان
ولعل من أبدع ما كان لديهن من الأحاجي التي تتعلق بالماء وهنّ يعنين بذلك ماء نهر بردى، وتقول هذه الأحجية:
شب وعشق جاربة… عشق البهاء ظاهر
نال مراده منها.. وصلى وهو طاهر
وكان من الطريف بسهراتهن ما يعرف بكشف حظوظهن، بحوار لطيف لا يقل متعة عن بيان مشاعرهن نحو السمرة والبياض، كأن تطلب إحداهن كشف حظ إحداهن من زوجها، أو كشف حظ إحداهن من حماتها أو سلفتها بل ضرتها.
وفي وجود إشكال بين ساهرتين من الساهرات، فلا مانع من إزالة ذلك الإشكال، بأقوال وأزجال تغسل النفوس من غصاتها، وتصفّي النيات من أهوائها، ويكون الجميع حبايب.