الثقافة حاضنة المجتمع وحصنه دوماً … ارتفعت الشريحة المتعلمة في عددها وانخفضت باهتماماتها ودورها الثقافي والمجتمعي … بين الثقافة ومثقف السلطة مسافات من الصعب ترميمها!
| إسماعيل مروة
أزمة ثقافة لا غير، ما حدث في المنطقة العربية، وفي سورية تحديداً لم يكن إلا وليداً شرعياً للأزمة الثقافية ولا ينظر إلى الموضوع من مهام وزارة الثقافة وحدها ولا للمؤسسات الثقافية مجتمعة بل لأزمة ثقافية مجتمعية متكاملة، تتعلق في النظر إلى الثقافة ودورها، وإلى النظرة المجتمعية للثقافة، وإلى رؤية السلطات العربية للثقافة، وإلى نوعية الثقافة المعززة في المجتمع العربي، والتي أسهمت إسهاماً كبيراً في تحديد أطر السيرورة المجتمعية! فقد يقول قائل: المشكلة تربوية، هو على حق، لكن الثقافة السبب، وقد يقول آخر بالقضاء، وهو على حق، وآخر يرى المشكلة اقتصادية، وآخر سياسية، وجميعهم يملك الحق والرؤية، لكن كل تلك الرؤى تعود في جوهرها إلى الثقافة، بمفهومها العميق جداً وليس بالمفهوم الذي فرضته السلطات، وآمن به المجتمع.
الثقافة وأهميتها
لقد تم بتخطيط واعٍ لتهميش الثقافة وتهشيمها وتقزيم دورها، فقد عملت الوسائل كافة على السخرية من الثقافة والمعرفة، وبعد أن كانت الثقافة أمراً مهماً يمتدحه المجتمع تحولت إلى وسيلة للسخرية، فهذا مثقف يعني أنه دخل في الفذلكة والخصوصية! وربما كانت الحقبة الماضية أكثر صوابية في تحديد الثقافة، فقد كان المثقفون نخبة اجتماعية وثقافية وسياسية، وقدموا ثقافة نوعية، لأنهم سعوا إليها، ورأوها شخصية لهم، ولننظر لنجد أنه ما من أحد سعى للثقافة إلا كان شخصاً مختلفاً في تحصيله وعمله ونزاهته وإبداعه، فهذا عبد السلام العجيلي، وهذا سامي الدروبي، وهذا توفيق الحكيم، وهذا محمد حسين هيكل صاحب رواية زينب، وهذا عمر أبو ريشة وشكيب الجابري، وهذه ليلى الصباغ وإلهام حمصي، والقائمة تطول لتصل إلى أحياء من الأهمية بمكان، ولو استعرضنا سيرة هؤلاء الحياتية والمجتمعية فإننا سنقف أمام أناس متنورين نقلوا الحضارة إلينا، وأسهموا في بناء مجتمع عربي، ولم يقفوا عند حد معين في التحصيل الوظيفي.
وما من أحد منهم عاش في باريس أو لندن أو موسكو وعاد من دون أن يكون متقناً للغات وناقلاً للروائع.. كذلك كانت الثقافة، وكذلك ينظر إليها المجتمع، وكذلك كان رأي الإيفاد من الدولة، أو رأي المتابعة الخاصة من الطبقة الاجتماعية الميسورة، فما الذي حصل؟ لعلّ أهم ما حصل للتعليم والثقافة في سورية تمثل في أمرين: أولهما تعزيز مبدأ مجانية التعليم، وطرح فكرة الاستيعاب الجامعي، والتي لا يزال العمل فيها قائماً، والغاية الأساسية من هذا الأمر بمنتهى النبل وتحقيق مبدأ العدالة، وأقول إن أكثريتنا وأنا من هؤلاء الذين استفادوا من هذه التشريعات، وتمكنوا من متابعة التحصيل وإن كنت قد استطعت المتابعة بجهد شخصي، وتحملت التكاليف، إلا أنه لم يكن من الممكن أن أفعل لولا ما أتاحت لي ولجيلي قوانين التعليم المشاع للجميع.. والذي يعنيني أن هذه القوانين وسّعت شريحة التعليم أفقياً، وأتاحت لأفقر الناس أن يتابع، بل كانت القوانين تجعله يتابع من خلال صندوق التعاون والنشاط.. فقد كان الدعم في السبعينيات في القرن الماضي للعملية التعليمية الواسعة التي تشمل الشرائح كافة كبيراً للغاية، ومن عاش تلك الحقبة يدرك أن التعليم الخاص كان متواضعاً، إذ يكتفي أبناء الذوات والطبقة العليا من المجتمع في دمشق بمعهدين مشهورين مميزين، إضافة إلى عدد من المدارس ذات التبعية الدينية تمويلاً وتعليماً من دون أن تكون ذات صبغة دينية.. أما المدارس الخاصة، فقد كانت محدودة، وتستجدي الطلبة بسبب جودة التعليم في المدارس العامة، وكان دورها محصوراً فيمن أخفق ويريد المتابعة، أو فيمن يريد أن يعيد دراسته الثانوية ليحصل على مجموع أعلى.
المهم أن مثل هذه الأجواء العلمية والتعليمية كان من المفترض أن تقدم مجتمعاً مختلفاً يقوم على التحصيل والثقافة والعلم، وخاصة بعد أن أعلنت سورية دولة خالية من الأمية، في ظل حملة كبيرة لمحو الأمية وتعليم الكبار، وقد انتظم فيها أغلب كبار السنّ الذين صاروا يقرؤون ويستطيعون معالجة قضاياهم وأمورهم الحياتية من دون ضياع أو مساعدة..
ما الذي حدث؟ وهل يعقل أن تتحول هذه الحملة العلمية إلى فاعل سلبي؟
التعليم وغياب الثقافة
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن مباشرة: أين حصاد هذه المرحلة المهمة للغاية في تاريخ سورية المعاصر؟ أين جيل الخمسينيات والستينيات الذي استفاد بشكل مباشر من التعليم المجاني أو الاستيعابي؟ هل كان التعليم الأفقي على حساب الجودة والنوعية؟ سؤال واحد تفرع عنه أسئلة كثيرة، ويتفرع عنه أسئلة أكثر! والغريب أن عدد المبدعين والشعراء والأكاديميين العمالقة في مرحلة سابقة كان أكبر بكثير، فهل غاض الإبداع؟ عندما نعود إلى الصحف السورية نقف عند قامات أدبية وشعرية وعلمية وتربوية من الصعب أن تنسى أو ينسى أثرها، من زكي الأرسوزي إلى محمد فاضل إلى عبد الله عبد الدايم وسامي الدروبي والعجيلي ونزار قباني وعبد الغني العطري وغادة السمان وكوليت خوري ومدحة عكاش وصولاً إلى ممدوح عدوان وممدوح سكاف وعبد الكريم الناعم وعلي الجندي وأحمد الجندي، مروراً بأدونيس وبدوي الجبل وأبو ريشة وناجي الطنطاوي وسليمان العيسى وفايز خضور وعلي عقلة عرسان وسعد الله ونوس ومصطفى الحلاج وحامد حسن وغيرهم كثير من الشخصيات التي يصعب حصرها في الأدب والثقافة والشعر والعلوم، ناهيك عن الطب وتعريبه من مرشد خاطر إلى حسني سبح وماجدة خوري ورضا سعيد والجامعة والتعليم والتعريب، والحقيقة أن أحدنا سيجد صعوبة في تعداد الأسماء، لأن نسبة التميز كانت عالية للغاية، فهذا إبراهيم كيلاني وبلاشير، وهذه نجاح العطار والثقافة، وهذا حنا مينة والرواية وحيدر حيدر وبديع حقي وهاني الراهب وهلال الراهب وفاضل السباعي، وهذا فواز الساجر وشريف شاكر، وعندما يحاول المتابع أن يبتعد عن اسم من الأسماء تنهال الأسماء المميزة في كل ميدان على فكره، فمن سادة السياسة والرأي إلى سادة الاقتصاد ومن ثم إلى الثقافة والفكر والتربية ليشمخ فاخر عاقل ومحمود السيد وشفيق جبري ومازن المبارك وأحمد راتب النفاخ ومحمد رضوان الداية وفخر الدين القلا وبدر الدين القاسم.. الأسماء كثيرة وتأتي من عمق الذاكرة من دون استدعاء، والذين لم يذكروا أكثر بكثير من عاصم بيطار إلى محمد كردعلي ومحمد البزم وأنور العطار وجورج صيدح.. كثيرة هي الأسماء، حتى يكاد أحدنا لا يجد اسماً غير مميز وغير صادح في ميدانه.. وهذا كله قبل أن يكون التعليم متاحاً للجميع ولكل الفئات، فماذا عنه في التسعينيات وما بعد عند حصاد المرحلة التي بدأت في التسعينيات، وهل تحمل منارات تذكر؟!
أخاف أن أقول: إن الثقافة نخبوية وطبقية، وكل ما أعرفه يخالف ذلك، فأدونيس ليس من طبقة اجتماعية عليا، بل هو كما قال ووثق فقير، وتعلم بمساعدة ودعم من الرئيس شكري القوتلي، واستطاع أن يكون مميزاً ومحلقاً وعالمياً! لكن ما يمكن الوقوف عنده هو الدافعية، وثمة فرق بين الثقافة والتعليم، وعندما تحول التعليم إلى ميكانيكية غابت عن روحه فكرة الثقافة، وتحوّل التعليم إلى طريقة أقصر للحصول على وظيفة وكسب لقمة العيش! فالمدرس لم يعد مدرساً لأنه يعشق مهنته، والإعلامي الصحفي موظف لأنه لم يتشرب الصحافة في خلاياه، والطبيب لوجاهة وتشبه بالمجتمع الراقي والانضمام إلى شريحة اجتماعية، وكذلك في الاختصاصات كلها التي يعرفها التعليم، ومن أسف، فإن المتابع يجب أن يعترف أن طبقة كبرى من الذين تعلموا استطاعوا أن يفرزوا المجتمع طبقياً أكثر مما كان عليه من قبل، وضاعت حدوده ومعالمه وراء بحث عن وجاهة مزيفة دفعت إليها عقدة مرضية من طبقة الأغنياء أصلاً، وساعد في تعزيز هذه الحالة ثقافة وسلطة وموقع، فتحولت الثقافة من العمق إلى طبقة خارجية موظفة..! حتى الشاعر صار موظفاً، والمبدع صار موظفاً!! هل نتخيل ذلك؟
كانت النخبة فيما قبل تنويرية، وعندما ارتفعت الشريحة المتعلمة في عددها تحولت إلى طبقية، وفيها الكثير من الضغينة والحقد، إضافة إلى ما أفرزته الجغرافيا من هجرة داخلية تقصد التشبه والرفاهية، وتبتعد عن الحقيقة في رسالة الثقافة، وساعد على ذلك السلطات والشخصيات التي لم تعمل على تنمية الريف والأطراف وتمدينها وتوطينها، ولم تعمل على الزراعة والصناعة العلمية وإبراز الدور العلمي، فتحول كل المهندسين الزراعيين إلى موظفين في المكاتب، وكل الأطباء البيطريين إلى موظفين لا يعرفون المزارع، وكلية الزراعة من (خرابو) إلى دمشق في بيئة غير سليمة، وغير قادرة على تخريج المتعلمين، وغير قادرة على الاستفادة من الخبرات، فالخبير في الحراج والشتول يعيش في المالكي وأبو رمانة، ولا يعرف مما نهله هناك إلا النظري الذي يدرسه في القاعات من دون أن تتلوث يده بالتراب!!
الحصاد المر
الجيل الذي سبقنا، وجيلنا أكثر من استفاد من قانون الاستيعاب الجامعي، وضمتنا الجامعات، وفي اختصاصات نرغبها، ونسبة عالية في المدة بين 1980- 1990 وجدت طريقها إلى البعثات العلمية الخارجية، وذلك حسب نسبة الدعم والانتماءات من دون أدنى مواربة، والبعثات العلمية ذات قيمة كبيرة، وعليها ترتكز عملية البناء وإعادة تأهيل المجتمع، وأزعم أن الألوف من الشباب حازوا بعثات علمية إلى دول اشتراكية أو غربية في ذلك الوقت، وعلى عودة هؤلاء الذين نهلوا العلم في مصادره ترتكز النهضة العلمية في جوانب:
– الترجمة من اللغات التي تعلموا بها، واختيار المصادر المناسبة.
– الاختصاص العلمي العالي الذي يؤهل صاحبه لقيادة عملية تعليمية.
– اتباع المناهج والطرائق والأساليب والأدوات التي نفتقد إليها.
ولكن ماذا كانت النتيجة؟
لابد من الوقوف أمام النتائج ومراجعتها، والأفضل أن تكون المراجعة في حينها، وآنية وليست سنوية، لنعود بأفضل النتائج للمبعوثين، وقد حدثني الراحل الدكتور عبد السلام العجيلي عن تجربة اليابان في الابتعاث بعد الحرب العالمية، والآلية التي تعاملت فيها اليابان مع أبنائها، ما دفع إلى بذل الجهد والوقت والعمر لنهضة اليابان العظيمة! فهل قمنا بالمراجعة؟!
أعرف عدداً كبيراً من هؤلاء، وأصدقائي بينهم كثر، عدد الذين أخفقوا وعادوا ليس قليلاً، وعدد الذين أخفقوا وبقوا في تلك البلدان ليس قليلاً، وعدد الذين عادوا وقد أدّوا المهمة أقل من القليل، وينقسم المبعوثون إلى شرائح، في أعلاها لم تصل مرحلة الإبداع والتفوق والإتيان بما يناسب رحلتهم وتكاليفهم، والمتفوق منهم لم يتجاوز زميله الذي بقي في الوطن وتعلم فيه، إن لم يكن من بقي أكثر تفوقاً لأنه نال ما نال عن جدارة لا عن شيء آخر، بل أذكر بكثير من الألم أن بعض الأصدقاء الذين كانوا من الأوائل في سورية، وكان بإمكانهم أن يدرسوا ما يشاؤون ذهبوا في بعثات، فعادوا وقد فقدوا كل رغبة، وتنازلوا عن طموحهم ورغباتهم وتفوقهم! وصارت غاية أحدهم أن يكون موظفاً أو طبيباً معتمداً من إحدى الجهات الرسمية لأنه لم يعرف من الطب شيئاً!
النسبة الكبرى ممن أوفدوا خلال عقدين عادوا وهم يناسبون أن يكونوا رؤساء بلديات، وأن يتربعوا في الوظائف، بل أكثر من ذلك جاؤوا مخترعين لطرائق في الفساد لم تكن معروفة من قبل في سورية، لم ينقلوا المعارف التي في تلك البلدان، لأنهم لم يلتقوا بها، ولم يتقنوا اللغة التي ذهبوا للدراسة بها، لذلك لم يترجموا ما يشبع المكتبة العربية أو يرضيها، في الطب ولا الهندسة ولا العلوم، وإن كان من ترجمة قام بها هؤلاء، أو المميزون منهم، فهي لنصوص أدبية قد تكون مهمة، لكن يمكن أن يقوم بها أي مترجم، وليس شرطاً أن يمضي عمره مغترباً مبتعثاً! وهذا الأمر لا يقتصر على الدول الاشتراكية، فهناك من درس في فرنسا ولا علاقة له بالفرنسية، وهناك من درس في أميركا وعلى يد أهم الأساتذة، فعاد ولا علاقة له بالعلم أو باللغة، وكذلك في ألمانيا وسواها من الدول، وكل ما أخذناه من هؤلاء الاستخفاف بالعربية والجامعات، وليّ اللسان في الحديث..! إنه الحصاد المر لسياسة تعليمية كانت غايتها الأساسية تأمين العلم لشرائح المجتمع كافة، ولم تكن غايتها الوظيفة.. وفي غمرة توسع الشريحة صارت العلامات المميزة والمبدعة قليلة نسبياً، ولم تعد رائدة، ولم يعد يعتد برأيها لأن الشهادة خلقت مساواة بين المبدع والموظف، وفي أحايين كثيرة دفعت الموظف التقليدي الكسول ليصبح متحكماً بالمبدع والمتفوق والمثقف والنخبوي!! هل ندرك الأسباب التي جعلت منظومتنا التعليمية والتربوية والثقافية حجر عثرة في طريق مجتمعنا؟ وهل نملك القدرة والرغبة في أن نعالج هذه القضايا قبل أن يفوت الأوان بشكل نهائي؟!
هذا الحصاد المر منتشر في مفاصل المؤسسات كافة من أعلاها وأسماها وإلى أصغر مؤسسة يمكن أن نتخيلها، وإن كانت ملكية شخصية لصاحبها، لكنها تدار بعقلية تقترب من الجهل بكل شيء.
لماذا كانوا ولم نكن؟
ويسأل المتابع نفسه لماذا كان المثقفون الأوائل على قلة عددهم فاعلين، ولسنا كذلك اليوم مع أن العدد صار مضاعفاً؟ الجواب ببساطة: لأن الثقافة كانت هاجساً لديهم، ولا يعني ذلك لديهم إلا أنهم يريدون أن يفهموا ويعيشوا، فهذا صباح قباني، وبعد كل تحصيله انحاز إلى الثقافة التي أحبها في ميادين الفنون والإعلام، ولم يكن تحصيله لغاية وظيفية، وإن جاءته الوظيفة فهي لأداء رسالة وفي أي موقع كان، وعندما ينحاز عنه الموقع يبقى هاجسه الثقافي هو الذي يحركه ويساير رحلته، ويعلم كثيرون أنه بقي حتى أيامه الأخيرة رجل ثقافة ورسالة، وكل من ذكرت أسماءهم من الرعيل الأول، والذين غفلت عن ذكرهم كان الإبداع هاجساً وحياة، ولم يكن طريق وظيفة وتسلط، بل إن عدداً منهم لم ينسجم مع العمل الوظيفي، وفرّ هارباً منه كما فعل نديم محمد ونزار قباني وسواهما من المبدعين الحقيقيين الذين يحقق لهم إبداعهم ما يطمحون إليه، ولا تحقق لهم المواقع والمناصب شيئاً مما يطمحون إليه.. وبتحرر المبدعين من أسر الوهم الوظيفي والسلطوي كانوا أحراراً، واستطاعوا أن يقدموا لمجتمعهم أفضل ما لديهم.. أما حين اتسعت الدائرة، وكثرت الشهادات التي تأتي من كل حدب وصوب، فأنا مع الشهادات والتحصيل، لكن أن يكون الدافع ذاتياً ورغبة في التحصيل والمتابعة لغاية العلم. عندما كثرت هذه الشهادات، وبدأ السعي إلى المواقع والأماكن والمكاسب، بل بدأ التكالب على الوصول ضاعت الحدود، وغاب المثقف الحقيقي، وشهدنا غيابه عن المشهد الثقافي سواء كان الغياب برغبته أم فرض عليه أن يغيب، وانحصر الفعل الثقافي بمجموعة من المثقفين الجدد الذين تم تقسيمهم إلى فئات:
مثقفو السلطة، وهذه الفئة هي الأكثر خطراً، لأنها في المرتبة الأولى تسعى إلى الفعل السلطوي، ولا تسعى إلى الفعل الثقافي، واستطاعت هذه الفئة- على المستوى العربي- أن تكون صدى لصوت السلطات، وأن تتحول ثقافتها إلى منشور سياسي، وليس ذلك فقط، بل إلى منشور سياسي نفعي آني، لا يحمل رؤية سياسية أو أيديولوجية ذات قيمة، مهما كانت هذه القيمة.. إضافة إلى أن كثيراً من هؤلاء، وبعيداً عن التعميم لا يحملون الفعل الثقافي المؤثر، ولا يحملون الثقافة التي من الممكن أن تكون مؤثرة، وهذا ما يستدعي أمراً خطراً يتم العمل عليه في الخفاء حيناً، وفي العلن في أحايين كثيرة وفي مراحل لاحقة لتسلطهم، وهو العمل على محاربة كل ثقافة جيدة ومثمرة، وإبعاد هذه البوادر الإيجابية عن الساحة الثقافية، وبتعبير آخر يتم العمل على إفقار الساحة الثقافية والإبداعية بالإبعاد حيناً وبالتهميش حيناً لكل ما يمكن أن يكون مضيئاً، ويهدد بوجوده هذه الطبقة من مثقفي السلطة، مع ملاحظة أن الثقافة الحقيقية تخدم السلطات ولا تنال منها، ولكن المنتفعين من المثقفين يصورون أي بارقة ثقافية إيجابية على أنها خصم وخطر، وربما وصل الأمر حد التخوين.. هذه الطبقة هي عدوة للسلطة في الدرجة الأولى قبل أن تكون عدوة لأي شيء، لأن الإفقار الثقافي للبيئة يحمل آثاراً كارثية، والمتابع المنصف لما جرى في الأرض العربية بما سمي الربيع العربي يلمس هذه الخطورة، فمثقفو السلطة في كل البلدان العربية عجزوا عن الدفاع عنها، ليس لأنها لا تستحق الدفاع، بل لأنهم لا يملكون العدة الثقافية والفكرية والإبداعية التي تجعلهم قادرين على الدفاع المقنع، ولا أريد أن أدخل في التفاصيل والأسماء لشخصيات ثقافة السلطة التي عجزت وانسحبت بما كسبته من السلطة، ولا عند تلك الأسماء التي تحولت بقدرة دافع إلى خصم للسلطة والوطن في عدد من البلدان العربية.. وما كان لذلك أن يحدث لو أن المثقفين الحقيقيين موجودون على الساحة، وهنا لا أقصد أن يكونوا ضمن البناء الأساسي للسلطة، لأنها لن تستوعب كل الموجودين، ولكن أن يأخذوا أدوارهم وحقوقهم وتقديرهم..! ولأن الأغلبية من مثقفي السلطة لا يملكون رؤى، وكل ما يملكونه هو التهليل والتصفيق، فإنهم يتلاشون، ولكن الخطورة تكمن في إفقار الساحة الثقافية التي من الصعب ترميمها بسرعة، لكون الثقافة خبرة تراكمية.
مثقفو الدرجة الثانية.. من الطبيعي أن تفرز طبقة مثقفي السلطة طبقة أخرى هي من مثقفي الدرجة الثانية وربما الثالثة وأكثر، لأن هذه الطبقة حسب زعمهم لن تكون منافسة، ولن تشكل خطراً، فقرأنا الثقافة التي لا تقرأ وقرأنا الإبداع السطحي، ورأينا المسرح والسينما والدراما الاستهلاكية التي لا تحمل مضامين عالية، وهذا أمر طبيعي، لأن مثل هذه الطبقة لا تستطيع أن تقدم أكثر مما قدمت، ولأن الظروف جعلتهم سادة الثقافة والإبداع، فإنهم سيعملون، وربما بحقد لتغيير معايير الثقافة، وتعميم الثقافة البسيطة المؤثرة سلباً، علماً بأن الثقافة الاستهلاكية التي ننسبها للغرب لم تضع جانباً الموسيقا الكلاسيكية الكبيرة هناك، ولم تلغ قصة حب ولا ذهب مع الريح، وبقيت الثقافة بكل أطيافها بكل مجال من المجالات، لأن الثقافة المؤسسة على علم ودراية يمكن أن تستوعب الجميع، ولا تحوّل الغناء إلى ختم واحد ولا الرواية ولا الشعر.. لكن ما خلقته السلطات العربية ومثقفو السلطة ساعد على انتشار ثقافة هشة لا تحمل أي نوع من الأصالة التي تشكل الحاجز الأول للدفاع عن الأوطان عند وجود خطر داهم.. ولاحظنا أن السلطات والأوطان أول من دفع أثمان هذه الثقافات التي بإمكانها أن تحمل أدواتها الهشة لترحل إلى أقرب مكان، لتكتب هناك، وتغني هناك، وتمثل هناك، وترسم هناك، بل تتلون بلون جديد يناسب تلك الأجواء الجديدة التي تصبغهم بالأجر المدفوع مقابل هوية وثقافة ووطن!
مثقفو الشتم وهم الطبقة التي تشترك فيها طوائف من المثقفين، فمن هؤلاء عدد من المثقفين الحقيقيين الأجلاء الذين تمكنوا من الثقافة إلى درجة بعيدة، لكنهم لم يملكوا أنفسهم وذواتهم، فهم مرتفعو منسوب الثقافة والتحصيل، لكن القيمة الإنسانية والتقويمية لديهم متدنية، فيعملون على الشتم والانتقاص، وقد يكونون على حق، ولكن انحيازهم التام الى هذا الجانب يجعلهم بعيدين عن التأثير الثقافي بسبب ضياع جهودهم ووقتهم، ويؤدون دوراً رقابياً سلبياً يؤدي إلى اضمحلال الجيل المرافق أو التابع لجيلهم، بدل أن يكونوا رعاة للثقافة وتطورها.
تحت إهاب السلطة
من هذه الطبقة، المثقفون المنضوون تحت إهاب السلطة، الذين يشتمون كل من يعارض في ثقافته السلطة التي سيدتهم بغض النظر عن القيمة الثقافية والفكرية لما يقومون بانتقاده وشتمه، وبغض النظر فيما إذا كانوا يرقون إلى مستوى هؤلاء الثقافي والفكري.. وبالمقابل فإن المثقفين الذين يواجهونهم يعملون على الرد والانتقاص، فتضيع جهودهم الثقافية والفكرية، وثمة فرق بين المعارك الثقافية المجدية التي شهدتها ثقافتنا العربية منذ القدم، فالمعركة بين العروبة والشعوبية كانت معركة ثقافة وتاريخ ووجود، ووجدت من كلا الطرفين من يقف عند الجانب الآخر في بعض الطروحات، وهذه المعارك أنتجت لنا أدباً عظيماً كما كان شأن الجاحظ معلم العقل العربي، وما تزال كتبه ميداناً غنياً لدراسات فكرية وسياسية ولغوية وقومية.. وكذلك المعارك الفكرية التي شهدها القرن العشرون بين طه حسين والرافعي، والعقاد والمازني من جانب، وشوقي في الجانب الآخر، وبين ميخائيل نعيمة وغرباله، والأدباء الذين لا يرقون إلى المستوى الثقافي والأدبي، وهذه المعارك أنتجت لنا كتباً ومدارس نقدية غاية في الأهمية، فكان كتاب الديوان للعقاد والمازني، وكان كتاب تاريخ الأدب العربي للرافعي، وكان كتاب الغربال لنعيمة، إضافة إلى كتب نقدية مهمة للغاية أسست لوجود مدرستين نقديتين فكريتين على الأقل، إحداهما مدرسة تقليدية، والأخرى مدرسة حديثة، وخاصة إذا وضعنا في حسباننا التواصل مع الغرب واللغات الأجنبية التي أتقنها ونقل عنها عدد لا يستهان به من الأدباء والمثقفين، هذا علاوة على الأدباء الذين اتسموا بموسوعية الإبداع وعاشوا في الغرب مثل جبران، والذين عاشوا في الشرق والغرب مثل ميخائيل نعيمة.. المهم أننا عندما ننظر إلى الأدباء والمثقفين في هذه المراحل فإننا نجد إنتاجاً فكرياً يستحق، ومثقفين استحقوا الخلود سواء وافقناهم أم لم نوافقهم، ولو استعرضنا الأسماء التي قدمت هذه النتاجات عالية المستوى، فإننا سنجد مثقفين أحراراً لم ينتموا إلى السلطات، ومعاركهم ثقافية وفكرية، وإن لبست لبوساً أيديولوجياً. وعندما نتابع معركة الشعر الحديث بين التقليدية والحداثة والتي بدأت مع مجلة شعر عام 1957 ويوسف الخال وأدونيس، وطليعة الشعراء الحديثين، فإننا سنلمس ذلك الغنى الثقافي الذي تنوع بين أدب ونقد، شعر ونثر وأشياء أخرى عديدة، بل إن المعركة عندما ظهرت نتائجها وجدنا عدداً من الكلاسيكيين يحاولون أن ينسبوا لأنفسهم أو لأتباعهم ريادة معركة الحداثة، وأظهروا نصوصاً، واخترعوا لها الدلائل للريادة وهكذا.
إذاً بعد هذا الاستطراد فإنني لست مع الحالة السكونية للثقافة والفكر، بل إن المعارك تغني وتغير وتشكل مفاصل مهمة في الثقافة والفكر، لكن المقصود بتلك المعارك، المعارك القائمة على المعرفة والأرضية الفكرية الفنية للغاية، لأنها مؤسسة على المعرفة، وتؤسس لنهوض فكري مختلف لم يكن موجوداً، أما قضايا الشتم لدى المثقفين، فهي التي أقف عندها وأرفضها، فكل المنتمين إلى مدارس أصيلة اعترفوا بخصومهم وأنصفوهم وإن اختلفوا معهم، أما الشتامون فإنهم يرتكزون إلى الجهل المعرفي، وهذا الأسلوب يهدف إلى النيل من القامات الفكرية والثقافية لا لشيء، إلا للنيل والشتم والتهشيم، والمشكلة في هذا الجانب أن السلطات العربية تدعم هذه السياسة التي تنتهي إلى إفقار الساحة الثقافية، وتخصيصها بثقافة السلطة الهشة..!