تجديد العالم
| د. نبيل طعمة
الأفضل أن نعرف ونتعرف على القانون، القواعد والأحكام، القيم ومسيرة الأديان، نقرؤها من جديد، نحذف منها الرث، ونضيف إليها الثمين مما يفرح ويبهر، الأيام تمر، الشمس تمنحنا صورة عن حركتها الثابتة، والأرض كذلك، وحده القمر ينار منها وينيرها من أجلنا، تنتظر اكتماله، ونحن نرقب مسيره وتطوره، تطوع من أجلنا، سخره الكلي ليخفف من حجم احتمالنا للظلمة، وليمنحنا طاقة من قدراته بانتظار النور.
كم هي حاجة ماسة وضرورية قوة الاحتمال التي من دونها لا يقدر الإنسان على مواجهة سلطات الطبيعة والأوبئة والحروب والانتفاضات والتخلف وثباته حين التقدم، وهذه القوة تحضر من المعرفة التي تعني المعرفة بما يصير إليه الحال، لا بما هو كائن، والجهل ضدها، لأن الجاهل يحوّل من دون وعي منه ما يسمعه أو يراه إلى ما يستطيع فهمه، ومن ثم يبدأ بنقله للآخر، وكثيراً ما يُصرّ على تعميمه، وأيضاً انحلال الأخلاق يؤدي إلى الفوضى والخيانة، والتشدد الديني يذهب بالناس للثورة عليه، كما حدث في أوروبا، حينما ثارت على روما، فالدوافع القومية والاقتصادية والأخلاقية تدفع بذلك أمام أي تشدد.
عالم من الآلات والرصاص والمدافع والفساد، أحزان ترافق سواد الكذب والنفاق، لا مساحة فيه للفرح، يستيقظ الموتى والأيتام، تجرهم الحياة إلى صدئها، لم يعد هناك من مساحة للنسيان، الذاكرة أصبحت ممتلئة، حتى الآمال غدت مصدومة، كم يحتاج هذا العالم إلى تجديد.
تعالوا نصعد باتجاه القمر عبر درجات الزقورات، وخاصة معابدنا القديمة الحديثة التي تعني في جوهرها من دون إدراك منا أنها المعبد الذي به يسكن المعبود إنه جسد الإنسان، والتي تقربنا كثيراً منه لحظة أن يغدو بدراً، تضيع جميع النجوم، لأن الطاقة الكلية تتجمع في هذه الدائرة التي تظهر كثقب نمرُّ منه في السماء المظلمة، يأخذ بنا إلى النجاة.
انظروا إلى أنفسكم، وابحثوا في حجم الخطايا الجاثمة عليها، هل نخجل منها؟ هل نتصارح معها من أجل الاعتراف النهائي أو البداية من جديد «هللوليا… هللوليا… وهلا.. لاليا..» وشهر مبارك هل هلالك.. وطلع البدر علينا، أين نحن من فهم وحدة الوجود، وحدة الإيمان التي فرقتها الأديان الوضعية والسماوية؟ أين نحن من وحدة الشهود، وأن كل شيء يشهد علينا؟ أين نحن من المشهد الذي يقول جميع إنساننا مخطئ، وسوءته لم تكن عورته، إنما ما خلفه من بقاياه النتنة وأعماله السيئة بحق الحياة والإنسان والحيوان والنبات والجماد.
كم عمراً سنحيا أيها السادة المتملقون، المتأنقون، المتكلمون، المتحركون، الواقعيون، الحالمون، المتنقلون على جميع المسارات من نقطة البدء إلى النهاية، دفء الأجساد وحده يبقينا على قيد الحياة، وبرودتها تنهينا، هل وصلتم إلى ذلك؟ أي من دون العمل، من دون النجاح، من دون تحقيق منجز ما، تجتمع البلادة مع الهزل، لا تنفعنا الأدعية إن لم نقم بفعل مبهر من أجلها، من أجلنا، تعالوا نبحر ضمن قلوبنا، ونسير بين تلافيف عقولنا، تعالوا نحب وألا نخاف من مصيرنا المحتوم، الأحلام لا تكفي محور الحياة المغامرة والمجازفة، ومن يهوَ الحياة لا يرهب الموت، قدرنا أن نتألم، لأننا أحياء، من دون ألم لا حياة.
ليجيبني أي أحد أنه امتلك الاستقرار، وهل الاستقرار أمان؟ أليس من الواجب أن تحميه بكل قواك المادية واللا مادية؟ هل من أحد حاكم المسير والمآل؟ لماذا نخاف الظلمة؟ ألا نسرع من أجل إضاءتها بالاصطناعي؟ لنصارح وجودنا، لو لم يكن لدينا قمر يقف بين الشمس والأرض فكيف كنا سنكون؟ كيف يكون حالنا؟ إن لم نحمِ أنفسنا فمن يحمينا؟ إلى أولئك الذين لا يشعرون، هل أدركوا بأنهم لا يشعرون؟ وهل هؤلاء هم رجال الأعمال العالميون ورجال الأديان أنصار الساسة والسياسيين الذين ليسوا سوى أفكار متحركة، تريد من البشرية الإيمان بهم واللهاث خلفهم.
من يفسد الحياة الإنسانية؟ صانعوها البشريون، أم صاحب القوى القاهرة، من خلال إنجازه لقوى الخير والشر ورميهما في مواجهة لا تنتهي، المستفيدون من تفاوت درجات الضعف والقوة، وهم الندرة الباحثون دائماً عن بقائها تحت أغلفة العماء، الممسكون بمفاتيح أبواب تقدمها وتراجعها، المتحكمون بنشر الخلاف والاختلاف.
بماذا تؤمن السياسة؟ بالدين؟ بالمال؟ بالجنس؟ أليس هذا المثلث ملكها؟ تتلاعب فيه كما تشاء، هل من مجيب؟ ولماذا تخضع الشعوب لإعلامها؟ بماذا تفخر البشرية بالتشابه أم بالفوارق؟ كيف بنا نوطد هذا أو ذاك؟ الآلهة، الألوان، اللغات، الذكاء، الفقر، الغنى، النظريات، الكلام يختفي ويتلاشى، أما الكتابة فهي حية باقية من مبدأ أن في البدء كان الكلمة والكلمة إنسان وإله.
هل على المرء أن يحيا في وسط مخيف كي يكون قادراً على البقاء؟ إنه صراع الوجود مع الوجود لاقتناص فرصة من الحياة المعيشة ضمن كليتها، من يجيب نتيجة وحدة العقل مع القلب؟ من يملأ فراغاتنا العطشى للعلم والمعرفة والإيمان بأن الكلي موزع بين الجوهر البشري وجمع الأحياء بقدر؟ من يقدر على انتزاع الكراهية والحسد والطمع من نفوسنا؟ كيف بنا نتجه إلى الأمام، لأن كل الأشياء موجودة فيه نتخيلها؟ فإذا توافرت الأدوات تحققت، وهنا ينتفي المستحيل، هل من أحد حاول سبر أغواره قبل أن تغادره رغم إمكاننا بالقيام بسبر أغوار الآخرين، إما بغاية الإيقاع بهم، وإما الأخذ بهم نحو الأفضل.
غير الإنساني بشري، ما الذي يفعله البشري ليشار عليه بأنه غير إنساني؟ أين نحن الآن؟ ومن نكون نحن الواقفين المنتظرين انجلاء الغمامة السوداء القادمة من الاصطناعي؟ وهل عكسنا على صواب أي اللا مادي؟ لمن نتجه؟ وهنا أقصد غير العارفين بما يجري على هذا الكوكب الحي الذي يتجه إلى الموت.
حروب خفية على الماء والغذاء والهواء في المستوى القادم، بدءاً من الحاضر على الحجر والبشر والحديد والنحاس والكوبالت والباريوم والليثيوم واليورانيوم، ناهيك عن النفط والغاز، هل ندري إلى أين نحن ذاهبون؟ الفرضيات تتحدث عن أننا قدمنا من بقايا كواكب أخرى، كانت حية مثلنا، استهلكها البشر حتى غدت جرداء وغير قابلة للحياة، لتنتقل إلى كوكب جديد هو ما نحيا عليه الآن، رحلة إنسانية ما إن تصل إلى بشريتها حتى نبدأ في التهام كل شيء.
العالم لا يتجدد، المطلوب أن نجدد أفكارنا وتفاسيرنا ورؤانا الواقعية، وأن نضع مخططات لمستقبلنا الإنساني، فالمادي الاصطناعي منه مبرمج، وهناك برامج لمئات السنين، ما يهمنا هو الذات البشرية التي نسألها إلى أين؟ فهو قائم أزلي، نحن العابرون من مساحاته الهائلة، مادمنا روَّضنا الغابة بكل ما فيها، وحوَّلناها إلى مدنية، إلا أنها تمكنت من أفكارنا، سكنت لديها، وأثرت فيها، فخلقنا جيوشاً جرارة تخيف بقواها ذاتها الإنسانية التي تبدو مجيدة، ولا تقهر، فنعلم أن التجديد مسألة ذات اتجاهين، تتحرك أمام طاقاتها المباشرة وغير المباشرة، لأن الوجود محكوم من حركة الجسم وقرارات الفكر.
عالم جديد مع قيامة الدولار والثورات الصناعية تحكم بالفكر والدين والسياسة، ذهب بكامل الأخلاق، حوله إلى عالم من البغاء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، نقول له: آن الأوان لنستنهض الأخلاق والإيمان الصادق بالمكون الكلي وبالحياة التي تمتلك الحب والمعرفة والجمال، دعونا نمنح أنفسنا فرصة للتجديد فتتجدد.