احتمالات تغيير موازين القوى الشرق أوسطية في التصعيد المقبل.. ضئيلة
| أنس وهيب الكردي
دخلت المنطقة منعطفاً جديداً مع قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، منعطف سيكون مملوء باحتمالات التصعيد العسكري والضربات المتبادلة، بما يهدد بجر المنطقة إلى حرب دولية إقليمية تتسبب بمزيد من الدماء والآلام.
اختار ترامب الوفاء بوعده الانتخابي وتمزيق الاتفاق النووي الإيراني فاتحاً الباب على مصراعيه أمام المجهول في منطقة لم تشهد الاستقرار منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، والمعضلة التي يواجهها ترامب بعد إلغاء الاتفاق لا حل لها.
أواخر عام 2012، سارت القيادة الإيرانية وإدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، في طريق الدبلوماسية السرية، فوافقت طهران على إطلاق العملية التي توجت بتوقيع «خطة العمل الشاملة المشتركة» في تموز من العام 2015، تحت وطأة تدهور أوضاع الاقتصاد الإيراني بسبب العقوبات الدولية الشاملة التي فرضها مجلس الأمن الدولي بموجب القرار 1929 لعام 2010، إضافة إلى تعرض حلفائها في سورية ولبنان لضغوط عسكرية كثيفة.
بالنسبة لأوباما كان الوقت قد حان لنيل الجائزة الكبرى في المنطقة، إيران، بعد أن أينعت الثمرة وحان قطافها، لقد كانت إيران في أضعف أحوالها اقتصادياً وعلى صعيد النفوذ الإقليمي، في ذاك الصيف من العام 2012، عندما تراجعت سيطرة الحكومة السورية إلى أقل من 20 بالمئة من مساحة البلاد، وانتعشت تيارات وحركات الإسلام السياسي في طول الشرق الأوسط وعرضه متحالفةً مع خصوم طهران ومنافسيها الإقليميين: تركيا، قطر، والسعودية.
تجهز الأميركيون للصفقة مع إيران وفي ذهن أوباما إتمام توجه بلاده شرقاً واستكمال الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط، وإقامة توازن مصطنع ما بين العرب والإيرانيين والأتراك والأكراد، الشيعة والسنة، تتلاعب به الولايات المتحدة ويسمح لها بالبقاء القوة الدولية الأولى في الشرق الأوسط، وإن لم تعد قادرة على فرض هيمنتها كما في العقد الأخير من القرن العشرين.
في ظل المفاوضات الأميركية الإيرانية، تمكنت طهران وحلفاؤها من تعديل موازين القوى في المنطقة، بدأ ذلك من معركة القصير ولاحقاً حمص، جاءت الخطوة الثانية في العراق عندما تلاقت المصالح الإيرانية والأميركية في دعم تشكيل حكومة جديدة بقيادة حيدر العبادي، وتمكينها من هزيمة تنظيم داعش الذي هدد بغداد وأربيل عاصمة إقليم كردستان العراق.
تحت إشراف إيراني، بنى العراقيون «الحشد الشعبي»، وبذلك حولت إيران الخطر الذي مثله داعش إلى فرصة لتعزيز دورها في العراق وعبر الشرق الأوسط، لاحقاً، ونجح الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح وحركة «أنصار الله» أي الحوثيين، المقربة من طهران، في نسج تحالف، قلب الطاولة على رأس حلفاء الرياض، في حركة دمرت السند التاريخي للنفوذ السعودي في اليمن وأضعفت أحد مداميك الأمن القومي السعودي في شبه الجزيرة العربية، وعندما هدد الحلف التركي السعودي بقلب الأوضاع في سورية ربيع العام 2015، جاء الرد الإيراني بتعميق علاقاتها مع روسيا، لاحتواء الموقف، وبالفعل، أطلقت موسكو وطهران عملية عسكرية مزدوجة في سورية بناء على طلب دمشق.
هذه الوقائع دفعت رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري صيف العام 2016، مدفوعاً من حلفائه في أوروبا والولايات المتحدة، إلى عقد صفقة مع «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» وافق بموجبها على وصول زعيم الأخير الجنرال ميشال عون إلى كرسي الرئاسة الأولى في البلاد كما تجرع سم قانون الانتخاب النسبي، الذي أطاحت الانتخابات التي جرت هذا الأسبوع وفقاً له، بالأغلبية التي كان قد حازها تياره في انتخابات العام 2009.
لقد تغير الموقف الإيراني بعد ست سنوات من موافقتها على إطلاق المفاوضات السرية مع إدارة أوباما، والتي استضافتها العاصمة العمانية مسقط، وساهمت «خطة العمل الشاملة المشتركة» في عودة مبيعات النفط الإيراني إلى مستوياتها التقليدية، إضافة إلى تدفق ملايين الدولارات على شاكلة استثمارات أو أموال مجمدة إلى الاقتصاد الإيراني ما هدأ من حدة المعاناة، وأصبح «الحشد الشعبي» ذو العلاقات الوطيدة مع الإيرانيين، قوة منظمة داخل السياسة العراقية له نفوذان سياسي وعسكري لا يضارعان، فضلاً عن تحالفاته مع الحكومة السورية وحزب الله اللبناني، وغيرهم، وسيتوضح الحجم الحقيقي للحشد كقوة سياسية في الأيام المقبلة عندما تجرى الانتخابات البرلمانية العراقية التي يتنافس للفوز بها ثلاثة أقطاب، العبادي زعيم «ائتلاف النصر»، نوري المالكي زعيم «ائتلاف دولة القانون»، وهادي العامري قائد «تحالف الفتح» الذي شكلته فصائل الحشد، ولجميع هؤلاء صلات مع طهران، ويعتبر المالكي والعامري مقربين بشكل خاص إلى الدوائر الإيرانية الحاكمة.
كما مثلت نتائج الانتخابات اللبنانية «صفعة» لحلفاء السعودية، وانتصاراً جديداً لحزب الله، الذي تعززت هيمنته على القرارين السياسي والأمني بجنوب لبنان في مواجهة إسرائيل، وارتقت مكانته الإقليمية على وقع محاربته المجموعات المسلحة إلى جانب الجيش السوري داخل الأراضي السورية.
في اليمن السعيد، تكشفت خلال الأشهر الماضية حقيقة جيوسياسية مهمة، وهي امتلاك حركة «أنصار الله» لبنية صاروخية متكاملة قادرة على توجيه ضربات موجعة إلى الداخل السعودي والعمق الإماراتي بالرغم من شن طيران التحالف العربي الذي تقوده الرياض، آلاف الهجمات الجوية على مواقع مفترضة للصواريخ اليمنية، ومساعي السعودية الدؤوبة بالتعاون مع الولايات المتحدة وبريطانيا، لاستهداف تلك البنية بـ«عمليات كوماندوس خلف خطوط العدو».
عمّقت إيران دورها في القضية السورية عبر علاقتها المميزة مع الحكومة السورية، وكرسته عبر عملية أستانا، التي سمحت بجر تركيا بعيداً عن الولايات المتحدة والسعودية، ورفعت درجة التنسيق الإيراني الروسي بالرغم من وجود تباينات محدودة في الآراء، مما هو من طبائع الأمور، وأثمر التعاون الروسي الإيراني المتزايد مؤخراً عن دحر النفوذ السعودي في ريف دمشق، عبر ميليشيا «جيش الإسلام»، وجرى ذلك استعداداً لمرحلة يقرر فيها ترامب سحب بلاده من الاتفاق النووي.
تظهر الوقائع السابقة أن إيران قادرة على مقاومة الضغوط التي ستستهدفها في المرحلة المقبلة؛ ففي بلاد الرافدين، يعتمد استمرار الوجود العسكري الأميركي في العراق إلى حد بعيد على حسن النوايا الإيرانية التي يبدو أن ترامب قد استنفذ آخرها، قد يكون لبنان مقبلاً على صيف ساخن، يستهدف ترجيح الكفة الأميركية في الشرق الأوسط وإضعاف المواقع الإيرانية، إلا أن الحسابات الإسرائيلية باتت ترى أن أي حرب مع حزب الله في جنوب لبنان أو حتى في كل لبنان لن تفيد في شيء، لأن الثقل الإيراني وحتى ذاك الخاص بحزب الله موجودان في العمق السوري ما بين حماة وحمص وريف دمشق.
في سورية، ستصعّد الحكومة مدعومةً بطهران، حملتها لاستعادة الشرق السوري من تحت براثن قوات التحالف الدولي، وكذلك الحال بالنسبة لجنوب غرب البلاد.
لا يبقى من احتمالات التصعيد سوى شن إسرائيل مزيداً من الهجمات لتدمير ما تروج له على أنه بنية تحتية لوجود إيراني في سورية، ومن المؤكد أن الولايات المتحدة تدعم هذا الخيار، ومع ذلك، لم تعد الولايات المتحدة أو إسرائيل قادرتين على إيذاء إيران في سورية، من دون أن تصطدما بالوجود الروسي القوي، ولم يبدِ الكرملين أي إشارة إلى عزمه التنازل عن علاقاته بطهران، بل إن واحدة من أهم أسباب العملية العسكرية الروسية في سورية هو منع واشنطن من تطويق الموقع الإيراني في الشرق الأوسط تمهيداً لإسقاط طهران في الفلك الأميركي، والأرجح أن تستغل موسكو، القرار الأميركي لتعزيز علاقاتها بالإيرانيين، الأمر الذي سيكون له انعكاسات كبيرة على الوجود الأميركي في شرق سورية واستمرار عملية جنيف.
بالرغم من أن المنطقة مقبلة على تصعيد ما بين الأميركيين وحلفائهم من جهة، والإيرانيين وحلفائهم، من جهة أخرى، فإن احتمالات تغيير الموازين الفعلية على الأرض، تبدو ضئيلة، لأن الشرق الأوسط دار دورة كاملة بين عامي 2012 و2018، وهذه هي بكل جلاء معضلة ترامب.