الخيار والاختيار.. والواقع السوري
| د. خلود أديب
مصطلحان لغويان، كلاهما مطردٌ للآخر؛ فوجود الخيار يؤدي إلى الاختيار. الاختيار هو ملك «للفرد»، والخيار هو ملك «للأشياء». والخيار بهذا المعنى هو أن تمتلك عدة أمور تختار من بينها، وتمارس عملية التفضيل كأساس لاختيارك. والاختيار هو أن يقوم المرء بممارسة عملية الانتقاء بين عدة خيارات بفرض أنه يملك حرية الاختيار- فيكون له حرية فيما يريد أو يفعل وقدرة واستطاعة عليه وعليه اختيار الوقت المناسب للتخلص من شرّ يتهدده أو للقيام بعمل يرغب في نجاحه.
هذا هو الاختيار… أن تستطيع الرفض دون ضغط ودون مراعاة لهذا وذاك. ولكن أن تختار بإرادةٍ ومسؤولية وإدراكٍ لنتائج اختيارك، لأنك تتحمل تبعات اختيارك شئت ذلك أو تنصلت. فحريَ بك أن تدفع ثمن اختيارٍ مجهول العواقب أو غضضت الطرف عن مساوئه. فبدلاً من أن تحصل على مقابلٍ جيدٍ لهذا الخيار فقد تحصد بلاء ورزايا فقط لأنك أخطأت الاختيار أو استعجلته من دون دراسةٍ، أو يكون مبعثاً لجلب الخير عليك بينما يجلب البلاء لأطرافٍ أخرى ليس لها ذنب في تلقي نتائج اختيارك سوى أنك في موقع سلطةٍ أو قوةٍ، شرعيةٍ أكانت أم غير شرعيةٍ، لفرض اختيارك.
هذا كله ينطبق على حالتنا التي نعيشها خلال أزمتنا في سورية في جميع أبعادها السياسية والاجتماعية والفكرية والإنسانية عموماً. فقد طرحنا محلياً الخيارات البعيدة عن واقعنا الذي كان حرياً بنا أن نحياه لا أن نعيشه بسطحية ولا ندري ما هو موجود فيه وما يخبئ من كوارث نتصرف حيالها تصرف النعامة؛ نختبئ منها في برجنا العاجي كي لا نراها أو نذهب أبعد فنخفيها بغرض ألا يراها منتقد ايجابي أو سلبي. فقد اختارت الناس وبغض النظر عن صلاح خياراتها. وتجاوزاً عن محدودية أو إلزامية تلك الخيارات، فقد تم الاختيار إما لأنه اضطراري إجباري لا مجال فيه حتى لخيارين اثنين؛ خيار ليس للإنسان فيه أي مجال للتفكير سوى أن يأخذ ما يعرض عليه، وإما جاء اختياراً اعتباطياً بلا درايةٍ أو دراسة. وخيارنا كان في جميع الأحيان على أساس أن الخيارات الأخرى المطروحة لا تلبي المرحلة. وطرحت لنا الخيارات إقليمياً وعربياً ودولياً اعتباطياً حتى تداخلت الخيارات وتناقضت وتصارعت فلم يبق لنا سوى الخيارات الاضطرارية اذا صح التعبير.
وأما محلياً فكان جديراً بنا اعتماد نظرية الاختيار العقلاني كمنهج منطقي لفهم المقاصد والوسائل، وتلمس الطريقة التي نختار بها أفضل الوسائل (الأفعال) لتحقيق المقاصد والتركيز فيها على الوسائل والمعايير التي نفاضل بها بين الخيارات المتاحة لنا من الأفعال في إطار المحددات المختلفة التي تجابهنا. وهي كنظرية وصفية تحاول أن تجد تفسيراً للأفعال التي تقع من الأفراد وتتبين ما إذا كانت أفعالاً عقلانيةً، أي هي الخيار الأفضل للشخص الذي قام بها لتحقيق أهدافه التي قصدها. ولكننا لا ندعو لتطبيقها بالمطلق من دون تطويرٍ وتطويعٍ وتكييفٍ. على حين أنها تفترض التسليم بالمقاصد كثوابتٍ، كما تفترض مواجهة الفرد لمحدداتٍ فيزيائيةٍ واقتصاديةٍ ومنطقيةٍ، نرى أن ذلك غير واقعي نتيجة تغير وتحول المقاصد وتطور تلك المحددات، عبر مرور الزمن وتغير الظروف المحيطة والمؤثرة والفاعلة. ونرى ذلك التحول أكثر وضوحاً بالنظر للسياق السوري على وجه العموم ولواقعنا المفروض حالياً على وجه العموم.
أن تملك، أياً كنت، حق وحرية الاختيار ليس هدفاً بحد ذاته هدفاً مجرداً عن الخيارات المتاحة ومدى صلاحها وانعكاساتها الإيجابية على الواقع السوري وخاصة في ظل المتغيرات والمتحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية المرافقة لسنوات الأزمة. كما أن إيماننا بحرية الاختيار كحق مكفول للأفراد لا يعني أن نطلق للمرء الحرية التامة في ممارسته من دون ضوابط َ قانونيةٍ واجتماعيةٍ وسياسيةٍ. فحرية المرء لا تتوقف فقط حين تبدأ حرية الآخرين بل تتقلص وتتراجع أمام حرية الجماعة في اختيارها وخياراتها. نحن نتحدث على الاختيار الأفضل في ظل توافر وتوفير الخيارات الجيدة.
وهنا يبرز العقل والمعرفة وباقي أدوات التطور الإنساني في العلم فقد يكون القصور ليس في العقل البشري وخياراته …لكن في الخيارات نفسها. إحدى تلك الأدوات هي تجميع رؤى وأفكار الجماعة وتوحيدها في الهدف والأسلوب ومحاولة تلمس الخيار المطلوب بلوغه وجعله متاحاً لكونه هدفاً يحقق الصالح العام، وعلى اعتبار أن الخيار الخاطئ قد تخف وطأته على الجماعة أكثر منه على الفرد بدرجاتٍ كبيرٍ …. وأيضا من الممكن اختيار أكثر من خيار في الإطار الواحد نفسه كبدائل مطروحة تبعاً للظروف المتغيرة؛ فيصبح للجميع المفاضلة في ما بينها واختيار الأصلح على المدى الزمني الطويل والتخلص من الخيارات غير الصالحة، على اعتبار أن الخيار بطبيعته أمرٌ متغيرٌ متحولٌ وغير ثابت.
وعليه فإن كل ما تقدم ينطبق على مجموع السوريين؛ حين القيام باختيار جمعي يصب في المصلحة العامة دولةً وشعباً، كما ينطبق على الفرد منا بكل أطيافه. ولكنه يزداد خطورة وأهمية حين يمارس الاختيار وتطرح الخيارات المتاحة ممن هم في موقع المسؤولية والقيادة.
وتأخذ نظرية الخيار الجمعي أو ما يعرف اصطلاحاً بالخيار العام رغبات الناس بعين الاعتبار وتقوم بتحليلها عند القيام بالاختيار الجمعي على افتراض أن دافع الإنسان في النهاية هو تحقيق رغباته الذاتية المحضة في شكل يشبه التحليل الاقتصادي للمجتمع الاستهلاكي. ولكن الخيار العام الذي نحن بصدد بحثه هنا ليس مجموع الرغبات الفردية تلك ولكنه تلك الرغبة الجمعية التي تجمع الأفراد تحت سقف المصلحة العامة في مجتمع واحدٍ موَحد، ولا يمكن قصره وحجزه ضمن هذه النظرة الفردية النفعية الضيقة. وبالطبع يتوقف الخيار العام هنا بهذا المعنى على مدى درجة الوعي والمسؤولية التي يتمتع بها الفرد في مقابل الوعي والمسؤولية الجماعية المجتمعية كما ترتكز على مدى تجاوز السياسيين أو الناخبين أو مراكز الضغط لطموحهم الأساسي في تحقيق رغباتهم مقابل تحقيق الرغبات الجمعية.