«ابن عربي» يمثل كل شخص فينا … علي صطوف لـ «الوطن»: هذا المختبر والعرض المسرحي يقدمني بشكل جديد.. ولم أخف من شيء
| سارة سلامة
في نص مسرحية «ابن عربي» التي كتبها المخرج علي صطوف مع خلدون قاروط نجد كل الانهدامات والانكسارات وفوضى خلفتها الحرب والدمار، وفوضى المكان، والازدحام وحالة الضياع، ونرى ذلك الغوص في النفس البشرية فهو لا يملك أي أمل، وفي الوقت نفسه يبحث دائماً عن بصيص أمل بعيد، ليبقى على قيد الحياة، أو يموت ويستشهد، ويختلف مع نفسه مراراً يظل هنا أم يغادر، وربما أثقلته الفوضى والهموم ويعيش حالة من الصراع مع الذات.
وبإسقاطات كبيرة على واقعنا نشاهد شخصية «ابن عربي»، ذلك الإنسان السوري الحائر الضائع الذي يفتش عن نفسه كل يوم وفي كل لحظة، يفكر بمستقبله المجهول وواقعه المكلوم وعن هذه الشخصية التي تفتت وتشظت والتي تتحدث عن واقعنا وأحوالنا وعن كل واحد منا، تجسدت بواقعها المرير على خشبة مسرح القباني الذي عج بجمهور لم يستطع إلا أن يرى العرض مرآة له بكل ما تحمله شخصية ابن عربي من انفعالات وعواطف وانكسارات وفوضى وانهدامات، والتي تمثلت كجسد بشخصية خلدون قاروط، وشخصية العقل لرنا ريشة، ففي هذا العرض المسرحي المتنوع بين المدارس المختلفة الكلاسيكية والواقعية والرمزية الذي جعله المخرج صطوف تحت مختبر فني مسرحي لا نستطيع أن نرى الديكور الذي صممه محمد وحيد قزق إلا ممثلاً حقيقياً لا يقل بعطائه عن الممثل العادي.
والعرض الذي تجسد بشخصيتين تميز بلغة نثرية جميلة وصعبة وفيه زخم كبير للأفكار، ولا يستدعي الملل بكل ما يحمله من تفاصيل وأغانٍ وشعر وأثاث مهدم، استطاع مقدماه بقيادة صطوف من أداء أفضل ما يملكان من أدواتهما التمثيلة، وفي كل تفصيلة هناك رمزية تحملنا إلى الغوص فيما يدور حولنا وننشغل بكل حدث وليس انحناء الشجرة في النهاية إلا تعبيراً عن حجم التعب والإرهاق الذي يعترينا، وانسدال الشرائط التي تعبر عن حالة الانسلاخ عن النفس، والعرض أبقى باب الحل مفتوحاً ولم يكتمل ليكون المتفرج مشاركاً معه يكمل ما يراه ويضع نهاية لعرض ما زال مفتوحاً.
مختبر فني ومسرحي
وتحدث مخرج العمل علي صطوف في تصريح خاص لـ«الوطن»: «إنه في البداية ومنذ تصديّ للنص حاولت كتابة شيء يشبه حياتنا ويشبه الأشياء التي يتصدى لها الإنسان في كل يوم من حياته، وجاءت كتابتي بالتوازي مع ما كتبه خلدون، وكنت أمام نص وعرض مختلفين تماماً، وذلك لأن النص الرئيسي أنتج على أساس أنه مونولوج وبوح لشخص واحد، أما النص الخشبي ونص العرض المسرحي فهو مختلف تماماً عن نص السيناريو المكتوب، واكتشفت أن ابن عربي هو أكثر من شخص ويشبه أي إنسان بيننا».
وأضاف صطوف: «إني عملت على تشريخ هذا الكائن المكتوب على الورق ليظهر على الخشبة بجسده وعقله، وجسده وروحه، وجسده وضميره، وجسده وأخلاقه، وجسده وتناقضاته، وجسده وكل ما يريد، وكل ما لا يريد، وجسد المونولوج الصريح والجسد خلدون قاروط، أما العقل والروح والضمير والأخلاق والإنسان والوطن والحبيبة والعشيقة والأم فجسدتها رنا ريشة، ومن الممكن أن يكون ابن عربي أكثر من رجل على الخشبة وأكثر من امرأة، ويمكن أن يكون رجلاً وامرأة مثل ما رأينا في العرض، ومن الممكن أيضاً أن يكون رجلاً وأكثر من امرأة، أو امرأة وأكثر من رجل والعرض مفتوح، وذهبت في العرض إلى تأسيس مختبر فني ومسرحي، لأشاهد أين يمكن أن يوصل هذا العرض بعلي صطوف كتجربة جديدة، وقمت باستخدام أكثر من مذهب مسرحي، وحاولت نسج حصيرة ناعمة بين المذاهب المسرحية التي لا تخدم الفكرة الأساسية حتى يكون العرض متآلفاً مع نفسه، ولكنه متغير بكل لحظة وابتعدت فيه عن العروض الاعتيادية التي يكون المتفرج فيها حاضراً فقط، وفي عرضنا المتفرج هو شريك، وخاصة أن العرض لا يقدم حلولاً بل يصدر هذه الانكسارات والانهدامات وهذا الشرخ الإنساني الموجود فينا، ابتعدت في العرض بشكل متقصد عن الاكتمال حتى يكمل المشاهد ما نريد أن نقوله، وحتى يكمل هو ما كنا قد تركناه ليفكر ويبحث ويفتش عن حلول، وحاولت أن أشغل عقل المتفرج وأجعله يبحث عن الحلول ويشاركني بإنتاج هذا العرض لذلك في كل يوم لدينا عرض جديد».
وبين صطوف: «إننا عندما ندخل بحالة المختبر الفني لإنتاج عرض مسرحي يعبر عنا وعن هويتنا وبتوقيعنا لا مكان للخوف، وهذا المختبر والعرض المسرحي يقدمني بشكل جديد، ولم أخف من شيء لكيلا أكون فاقداً لصنعتي، وأنا ممثل أولاً وأخيراً وعندما أعمل في الإخراج أعمل على الأداة الرئيسية في العرض وهي الممثل، وحاولت قدر الإمكان أن أجعل الممثلين يمتلكون أدواتهم بشكل صريح وعميق، وأن يقفوا على الخشبة ويرسموا الحركة والأفعال والكلام بلوحة جميلة كنت قد رأيتها وشعرت بها إلى حد بعيد، وفي الحقيقة لديّ حالة من الرضا عن هذا العرض، مع وجود آراء شخصية تحب هذا اللون من المسرح أو لا تحبه، ولكن لا نختلف أن العرض يسير باتجاهه الصحيح، والرأي الشخصي يدعمني كمخرج لهذا العمل ومقدم له، واحترم كل الآراء ولكن أتمنى ألا يختلف اثنان على أن هذا عرضاً مسرحياً».
وأفاد صطوف «أن البنية الرئيسية التي اعتمد عليها العرض هي ليست فقط الديكور لأن الديكور كان ممثلاً حاضراً على الخشبة مثله مثل الموسيقا والإضاءة، وعناصر العرض المسرحي هي ليست عناصر مكملة ولا مخدمة، بل هي عناصر حقيقية وأي خلل فيها يؤثر في العرض كله، ووجود الديكور وبقع الإضاءة ومشحات الإضاءة ووجود اللمسات الموسيقية هي لم تكن مكملة، ولم نبحث عن آليات التكامل بهذه الطريقة، ولكننا بحثنا عن اللون الذي نريده باللباس وشكل الحركة والديكور وأدواته والأغراض الموجودة على الخشبة وبقع الإضاءة متى يجب أن تكون ومتى يجب ألا تكون، وعملت كطاقم عمل رديف للممثلين وكقائد لهذا العمل بأن أصعب المهمة على نفسي فوجدت في بعض الأحيان أشياء لا تناسب الخشبة، وهناك أخطاء مسرحية لا يكتشفها إلا المتفرج المختص، وهي أخطاء متعمدة لأن «ابن عربي» يحمل انهدامات ويجب أن تكون هناك مجموعة من الانهدامات، ونلاحظ الأخطاء على صعيد اللون متعمدة جداً، وهناك الكثير من الأشياء في العرض درسناها جيداً لا تؤذي المتفرج حسياً ولا نفسياً لكنها توصله إلى إحساس الانكسار الموجود فينا».
وعن الشرائط التي أنسدلت في نهاية العرض قال صطوف: «إن الشرائط هي ليست سجناً أو قضباناً، إنما هي حالة من الشرائط فيها ليونة وهي ليست باباً موصداً في وجه أحد، وهي شرائط هشة من الممكن أن تتكسر ولكنها تعطينا إحساس السجن، وتمثل حاجزاً نفسياً آخر حتى يقدر «ابن عربي» الانسلاخ عن نفسه أكثر، وكمنتج لهذا العرض لم استطع أن أراه سجناً أبداً، وعندما يصلني إحساس السجن يصلني إحساس الممانعة القاسية من الداخل والحواجز الأخرى الموجودة في حياتنا، هذا التعبير الشرائطي عن السجن هو تعبير الفصل بين ما هو حاضر الآن ولا نريد أن يكون، وربما سجنت الديكور وربما سجنت العرض ولكني لم أسجن الممثلين أبداً».
مرآة تفكر
ومن جانبه قال خلدون قاروط كاتب النص والممثل الذي رأيناه يؤدي جسد (ابن عربي) في العرض: «إن العقل الباطن هو الفوضى التي شاهدناها في المكان، وهاتان الشخصيتان اللتان تشظيتا عن ابن عربي هما حالة السوري يرتب ويرتب وتستمر الفوضى فينا وبداخلنا وبالمكان، و(ابن عربي) هو الذي عاش الحرب من السنة الأولى وهو الذي استشهد كثيراً، وهو الذي بقيّ على قيد الحياة، هو الذي سافر كثيراً، وهو الذي عاد، هو من يحمل الأمل، والذي ليس لديه أمل، هو كل هذه الزحمة التي فرضتها الحرب علينا وعلى شوارعنا وبيوتنا وتفاصيلنا وعلى ما نريد وما لا نريده، وأنا شخصياً كنت قد اتخذت مئة مرة قرار السفر خارجاً وفي اليوم الثاني كنت أغير رأيي لوجود فسحة أمل صغيرة، ويمكن أن تكون ولدت لمرور يوم من دون قذائف، أقرر حينها البقاء في البلد، وعندما تعاود القذائف مجدداً أنوي السفر وأتخيل هذه الحالة النفسية التي وصلنا إليها كسوريين وكل هذه الزحمة والفوضى جسدناها بشخصية (ابن عربي)».
وأضاف قاروط: «إن غاية العرض الأساسية أن يكون مرآة تفكر ولم نعمل على تقديم بداية وحتوتة وحكاية ونهاية لكيلا تنتهي وينتهي العرض ويخلص مع انتهاء الوقت، وهذا ما لاحظه الكثير من الأصدقاء منذ بداية العرض أنه لم ينته، وكانت هناك صدمة والصدمة أحياناً ضرورية حتى علاجياً، والمشروع هو صدمة والناس تحضر العرض وتبقى تفكر ولم ينته العرض في ذهنها، وكتبت النص مع علي صطوف وقد استغرق معنا عامين من العمل، لأنه من الصعب أن يقدم النص بهذه اللغة السهلة والصور والفوضى، وأن نضبطها بمشروع حكاية على خشبة وهي فلاشات لها علاقة بالحب بين حبيبين، وفلاشات هي التي عملت الحرب، وأخيراً أقول إن علي قائد العرض نجح في استحواذ الانطباع الجيد عند الناس منذ اليوم الأول، وما كتب عن العرض وما سمعناه ووصلنا من الأصدقاء والنقاد يرضينا ويطمئننا ويسعدنا».
لا أريد عمل مسرح عادياً
أما رنا ريشة التي أدت شخصية العقل في (ابن عربي)، فتكشف لنا عن دورها والدافع الذي جعلها تعود بعد غياب طويل إلى خشبة المسرح وتقول: «إن الوقوف على الخشبة في هذا الوقت الاستثنائي، وبعد سبع سنوات من الغياب كان بمنزلة الولادة الجديدة بالنسبة لي، وأشعر أن روحي أحييت من جديد، وعندما قرأت النص شعرت بصعوبته وغرابته وبطبيعتي لا أحب الأشياء السهلة أو النصوص التقليدية، وحمل هذا النص شيئاً مختلفاً فيه خصوصية وغرابة، والدافع الآخر هو العلاقة الأسرية التي تربطني بالمخرج علي صطوف بكونه زوج أختي، وكنت أقول له دائماً أنني سأعمل مسرحاً ولكنني بحاجة إلى نقلة نوعية وإلى مسرح يغنيني يقدمني بشكل صحيح، وبعد غياب سبع سنوات لا أريد عمل مسرح عادياً، وأردت تقديم شيئاً مختلفاً عن السينما التي قدمتها وعن المسلسلات الدرامية، وكنت على ثقة بأننا سنذهب باتجاه خاص ومختلف، وفي الفترة الماضية عملت في الدوبلاج والإذاعة والسينما والدراما، وفي كل ما أقدمه كان هناك شيء خاص ومميز، لأنني لا أحب الظهور على الشاشة بشكل متكرر ولكن عند وجود شيء خاص ومتميز ويقدمني كرنا».
وبينت ريشة: «أن دوري اليوم في عرض (ابن عربي) مع خلدون هو الجسد وأنا العقل، وفي العقل لا يوجد هناك أنثى ورجل، حيث لا يوجد تصنيف للعقل ذكراً كان أم أنثى، ويمكن أن نراه ذكراً عندما يمر (ابن عربي) بمحطات معينة في حياته، وهذا النوع من المسرح لا يعتمد على الأدوات والأشياء المساعدة، ولا علاقة للمظهر الخارجي في الشخصية أي لا أجسد شخصية الرجل من خلال اللباس من البدلة الرجالية أو وضع شوارب، بل الاعتماد بالدرجة الأولى على أداء الممثل، والقدرة على استحضار الدور مثل السائق، ويمكن أن ألعب على تفصيل صغير حينما وضعت السلك لألمح إلى حالة سائق سيارة الأجرة الدوماني، وهي دلالات صغيرة، إلا أن اعتمادي الأساسي كان على صوتي القوي وعلى الأداء أكثر من أي شيء آخر، ولم تهمنا تفاصيل لها علاقة بالجماليات أو ما يظهرني كأنثى جميلة، لأن في هذه الشخصية الجمهور مشارك معنا».
وأفادت ريشة «أن خلدون يجسد (ابن عربي) كجسد، والحمل الأكبر يقع على شخصيتي المتمثلة بالعقل بكل ما يحوي من صعوبة من خلال المراحل التي يمر بها من حبيبة وأم وسائق سيارة أجرة وصديق، والركن الأساسي يعتمد على الموهبة والحضور والقدرة في استحضار الشخصية ليراها الجمهور ويشعر بها من دون أي مكملات، وعملنا كثيراً ليكون الجمهور شريكاً يفكر ويستنتج ويحلل ويبحث عن حلول، ومن يقدم العرض ممثلان فقط أنا وخلدون ولدينا زخم بالأفكار وبالفعل، والكلام في هذا العرض ليس عادياً بل يحمل قدراً كبيراً من الصعوبة ويحمل النثر وليس لغة محكية عادية».