الغبار: مجموعة قصصية يتيمة لسنية صالح
| أحمد محمد السح
تبدو حالة العشق للشاعرة سنية صالح من خلال الشاعرات بشكل خاص وعشاق قصيدة النثر الذين يفهمون محتوى العمق والصدق الذي كتبت فيه سنية صالح شعرها لكنّ قلة يعرفون أن الشاعرة سنية صالح كان لها مجموعة قصصية يتيمة بعنوان «الغبار» صدرت عام 1982 طبعة أولى من إصدارات مؤسسة فكر للأبحاث والنشر في بيروت، حيث تهدي سنية صالح المجموعة إلى ابنتيها فتكتب «إلى شام وسلافة، الطفلتين اللتين عمقتا وجودي..» في القصة الأولى التي سمتها سنية باسم «حمروش» تتخذ صوت الراوي وتدخلنا في عالم الحكاية التي يمكن أن تحكى للأطفال حيث الشغف والوصف، لكنها لا تنسى أن تدخل الهم الاجتماعي والسياسي في الحكاية لتوسعتها وتحميلها لغة إنسانية وعبرة للفرد في مجتمعات البلاد العربية المسحوقة، فحمروش الطفل البريء وحماره يحملان الاسم ذاته ويتعرضان للظلم ذاته من السيد كسرى، لجهل يلف بحمروش الصبي في كل شيء، وعندما يهرب الحمار حمروش يفكر الطفل حمروش في إمكانية الهروب لكنه يتضح أن الحمروش الإنسان أخنع وأذل من الحمروش الحمار لأن الخوف كان قد سكنه بشكلٍ لانهائي وتملّك منه بشكل كامل.
ضمن مشهد وصفي واحد يعتمد تقنية الخطف خلفاً تحكي قصة «الحياء» عن رجلٍ فقير تمكنت منه النيران نتيجة خطأٍ ما، ولكنه من شدة خجله في إظهار ألمه ووجعه قضى محروقاً، ومنها تظهر لنا سنية صالح القدرات على إمكانية تحميل أي مشهد أو أي قصة بعداً يظهر عدم وجود عدالة في الحياة، في الحياة يوجد كل شيء زهور وغبار وغيوم وملامح مطر، لكن العدالة غير موجودة، فالفقر يتمسّك بالناس والحاكم يتمظهر للمحكوم بأي شكل من الأشكال ويمعن في قهره وإذلاله حتى يجبره أن يعيش على آخر رمق فلا يبقى في بيته حين موته سوى خرقةٍ تحوي كمشةً من العدس لا غير.
في قصة «الغبار» تستخدم الكاتبة تقنية الحوار وتدخل في حالة وصفية لشخصيتين اجتمعتا في الزمن، بينما تشكل أحداهما امتداداً زمنياً للآخر، فالخادمة مجيدة ليست سوى امتداد لشخصية والدة سيد البيت الذي ينتظر أن يكون عميداً للكلية، بينما أولادها الحاليون متطابقون تماماً مع حالة إخوة، أما الطفل الذي يكسر النوافذ وتسحبه الشرطة إنه هو العميد المقبل، وهناك تقنية أخرى تظهر هي تقنية تدوير الزمن وتحويراته، لأنه من غير الضروري أن نقول إن الشخصية التي نكتب عنها وجدت سابقاً وأنا من تعيش معه حالياً هو مستقبلها أو ماضيها، لكن تحويرات القصة وبساطتها تتجه ليكون الأمر كذلك فالحكاية هي الحكاية نفسها، نستطيع أن نرويها على بساطتها كما تبدو ونستطيع أن ننسجها بحرفية الشاعر وهو ما اشتغلت عليه الشاعرة سنية صالح الرقيقة التي تلتقط بحسّاسات الوجع الذي عاشته كل ما يحيط بها، بروحٍ عالية وكلماتٍ بسيطة وعميقة.
تبدو القصة التي حملت عنوان «العاشقان» وصفيةً بامتياز تذهب فيها سنية صالح إلى الرمزية والشعرية العالية فتصف المشهد من وجهة نظر الزهرة وأحلامها ومشاعرها، وكأن الكاتبة تسعى إلى الدخول في عالم الأشياء لتأخذ من تفكيرها وتسبغ عليها مشاعرها، وتتحدث بحرفية عالية الروحانية عن قصة حب بين زهرةٍ وعصفور، وأحلام العطر التي تذهب بالزهرة إلى عالم السفر وعبور الفصول محتفظةً بعطرها وعشقها للخير والحب والمطر، لكن الشاعرة سنية صالح تبحث في التقاطاتها القصصية والشعرية دائماً عن التوجه نحو روح الإنسان والتوجه بالاتهام للبشري، فهي تحب الإنسان بروحه وحبه وعشقه، فالعاشقان اللذان تسعى سنية صالح لتسمية القصة باسمهما يأتيان في المشهد الأخير، ليسحق الذكر العاشق الزهرة ويخبر حبيبته أن حبه من دونها لا معنى له، كم هذه الزهرة، ومن ثم البشري العاشق يسحق رمز الحب وأحلام الزهرة وعطرها وأنفاسها ضمن مسوغات الحب البشري الذي يراه.. لأنه لا يرى في هذه الزهرة أو تلك الحصاة شيئاً يستحق الحب، فحبه البشري لا يعترف الآن سوى بحبيبته وجسدها.. إلى أن يقضي أغراضه البشرية منها.
تدخل الكاتبة في بنية الشخصيات النفسية وتذهب إلى إبراز ملامح ذات دلالة مبتعدةً أحياناً عن الصراع في القصة أو الحبكة، فهي من جيلٍ باتَ يعنى بفن القصة ذي الأثر الروحاني لا بفن الحكاية ذات الدلالة، ولكن هذا لا يفقد قدرة القصة على الجذب والتشويق بلغةٍ أقل ما يقال عنها إنها نظيفة، وتعنى بشكل خاص بالعلاقة بين جنسي البشر الذكر والأنثى، وفي «عامل الإسفلت « تبني لنا حكاية بصراعها ومدتها الزمنية الطويلة، ضمن عوالم نفسية تبرز في منحنيات تطورات الشخصية وطريقة تنفسها وحركتها لتعكس سلوك هذه الشخصيات وتاريخها التربوي والاجتماعي مع التركيز على البيئة، التي تكون إما ريفاً أو عشوائيات لقناعة سنية صالح أن الحكاية تنبع في هذه المجتمعات رغم التهميش المتعمد لها بينما عوالم الأغنياء وعوالم محدثي النعم فهي لا تفهمها ولا تذكرها إلا بلغة الاتهام.
في القصة الأخيرة «أسرة الديك الأحمر» تكتب سنية صالح قصة أطفال وكأنها تحكيها لابنتها «شام الماغوط» في الحقيقة، وهذا مرجّح، فطفولة ابنتيها سلافة وشام تجعل الشاعرة والأديبة سنية صالح تدخل عوالمهما وتختار من حكايتهما ما تريد إيصاله إلينا لترسم ملامح الدور الذي يجب أن يقوم به الأهل في فتح باب الخيال على مصراعيه أمام الأطفال والاستماع لكل خيالهم وأحلامهم التي لا يمكن أن تكون محدودة وتكون طازجة ومليئة بالإبداع، وهذا ما تدركه سنية صالح فتترك الصفحة الأخيرة في المجموعة القصصية لمشاركة ابنتها شام لتكتب مقطعاً بالعامية تسميه «البحث عن وطن» فتحكي لنا شام قصة مليئة بالبراءة والطفولة لتكون فاكهة المجموعة القصصية أرادت من خلالها الكاتبة اختبار رغبة ابنتها في الكتابة الإبداعية وتشجيعها على ذلك.
وعلى الرغم من أن المجموعة القصصية لم تنل اهتماماً في النشر والتوزيع والقراءة النقدية فقد فضّل القراء أو عرفوا أن سنية شاعرة وليست قاصّة، إلا أن هذه التجربة كان لا بد من الوقوف معها حتى بعد غياب سنية وغياب وجود المجموعة مطبوعةً ورقياً فالبحث فيما كتبه أي كاتب يعود بالفائدة علينا قبل أن يعود بالنفع عليه.