خلاص العمر
| زياد حيدر
«تقاتلت الشخصيتان طويلاً، كنت أرى صراعهما، أمامي في وضح النهار، وفي سهرات الليل، كانت الأصل تبحث عن متعة الانحناء أمام نداءات الروح، وكانت الثانية مشغولة بالإجابة عن مكالمة هاتف. في الليل كانت توقظه، تسحبه من سريره، مثقلاً بالنعاس وآثار الخمر، تهمس في رأسه بأبيات من الشعر، أو كلمات من أغنية ما، تطلب منه أن يضع شيئاً من ذلك الغليان في صدره على الورق، لكن الثانية تشعل سيجارة، تزيح الخبر تلو الآخر على شاشة المحمول، فتدمع عيناه من الإرهاق، ويعود من حيث أتى.
لم أفهم كل تلك السنوات أيهما الأقوى. كثيرا ما يقال إن فينا شخصيات كثيرة مركبة نحن بني آدم، وإن ظاهرنا هو خلاصة معركة لا نتذكر سوى بضعة تفاصيل منها بين كل تلك الشخصيات، وإن المحظوظ فينا هو من حسمت معركته الداخلية هذه سريعاً.
صديقي تأخر حسم المعركة الأخيرة لديه كثيراً، لم يكن الوقت يسمح بالاثنين معاً، وما زاد من مأساته، هو أنه كان يسمح أحيانا للأصل ببعض لحظات التباهي وشم الهواء، فكانت تذكره بما يفوته، من الحب، والشعر، والحلم، وآفاق الكتابة المفتوحة، فينكمش على نفسه، ويتفقد حسابه البنكي، ويعرف أن ما هو مهم الآن هو أن تنمو الأرقام التي أمام ناظريه، لا شهوته للحلم والكتابة.
كانت الأرقام تزداد بالفعل، لكن معها كل وسائل الهروب من الأصل، فكان صديقي يجمع المال وينفقه في اللحظة ذاتها، يكوّن رأس المال ويضيّعه في الموقع ذاته، وكان يلتفت إلي ويسألني مازحاً: «فهمت شي من اللي صار؟»، وكنا كلانا نعرف أنه يعاقب نفسه، فيرمي ما جمعته اليد اليمنى في اليسرى لتضيّعه، لا لشيء، إلا لأنه لا يشعر بأنه يمتلك كلتا اليدين كلياً.
كنت أتبعه، وأراقبه، وأخشى مصيره، أنا المعلق أيضاً بين مهنتين، الأولى تطعم الأولاد، والثانية الروح. محظوظ الذي فتحت له السماء ذات الساقية، للأمرين، لكننا نولد محظوظين أو لا. المنطقة الوسطى، هي ما يعرف بعناية الآلهة، التي تحفظ أحدهم أو لا تحفظه، ترعاه من المصائب أو تهمله، لكنها لا ترفعه ليصبح نجماً، ولا تنزله فتدوسه الأقدام.
كنت أنا على ما يبدو مشمولاً بهذه العناية، كقسم كبير من الخلق، لا أطلب كثيراً فلا يخيب ظني، ولا أهاب كبيراً فلن يسحقني.
لكن صديقي يمشي أمامي ولا أستطيع إلا أن أحزن عليه، وأسأل نفسي، بأي عناية هو مرفق؟ وما خلاصه؟
يوماً ما، في صيف أحد الأيام، كنا تحادثنا طويلاً، وامتدت بنا الأحاديث ليلاً، قلنا كل شيء، وكنا سبق لنا أن قلنا كل شيء مراراً وتكراراً، لكن تلك الليلة كانت مختلفة بشكل ما، كان صديقي يتحدث كأنما يتمرن على النطق، قصص نعرفها ونحفظها بكل أوجهها كان يعيدها، كأنما يعيد تركيب وقائعها.
كانت دمعة تنزل بين الساعة والأخرى، وكنت أرمي بكل شيء على الكحول، على الجلسة الطويلة، على تقدمنا في العمر، كانت تلك الدمعة المتقطعة فقط هي التي تشق صدري، بنصلها الغامض. من أين تأتي؟ ماذا تقول؟
وحين طلع الضوء، كان قال كل ما عنده، روى أشياء رقيقة جداً لم أسمعها من قبل، وتوجه لأحد أعمدة البيت، عانقه، وظل يضرب رأسه به حتى فجه وخر صريعاً».