جهابذة «نور الشام» يقصون طه حسين ويحرمونه نعمة العمى … عباس محمود العقاد: نقل الحراك الثقافي بين القديم والحديث إلى مستوى أرحب
| إسماعيل مروة
في أثناء متابعتي لقناة نور الشام رأيت ندوات مميزة أحياناً ضمن ركام من البرامج التي تعتمد القصّ واللصق، وسرقة الأقوال والأمثال والحكم، والتي تستسهل القراءات في كتب لا تقدم ولا تؤخر، علماً بأن بعض هذه الكتب تحوي بين دفتيها كوارث الفكر الإقصائي، وإن كان عنوانها براقاً.. ويوم الأربعاء الماضي لفتني برنامج بعنوان بصر وبصيرة ضمن سلسلة الندوات، فقبعت أمام الشاشة مسمراً، وقد أعجبتني المعالجة لقضية فاقدي نعمة البصر، وعلى مدى ساعة من زمن تحدثت الحلقة وضيوفها عن عدد من العبقريات التي فقدت نعمة البصر، ومن العصر الحديث أخذت الحلقة شاعر اليمن عبد الله البردوني، وهالني أن يغيب عن الحلقة العبقري الفذ والدارس والناقد والأكاديمي والروائي والصحفي الأول الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي شاء من شاء وأبى من أبى، وليس هناك من هو أكثر جدارة من طه حسين للحديث عن عبقرية فاقدي البصر الذين لم يكتفوا بلغة واحدة بل ترجم أندريه جيد وغيره، وقدم الرؤى التي تعجز عنها قوافل المبصرين في زماننا وليس في زمانه فقط، لم يذكر حتى باسمه عرضاً .. ولكنني سرعان ما قلت لنفسي لا تؤاخذيني، فأنا أتابع قناة نور الشام التنويرية الثقافية الدينية، التي يشرف عليها عدد من الذين يدّعون المعرفة الدينية، ولا أقول من علماء الدين، فهم في أغلبهم لا علاقة لهم بالثقافة ولا بالعلم الديني، وخمنت التالي اعتماداً على تجارب مع أصحاب هذه التوجهات، وأزعم أنني محق بذلك، وهو أن القائمين على القناة والذين يتحكمون بالثقافة فيها، ويحرفون مسارها من الذين لم يقرؤوا حرفاً لطه حسين، حتى كتاب (في الشعر الجاهلي) الذي تم تعديله ونزل باسم (في الأدب الجاهلي) لم يطلعوا عليه في الأصل ولا في التعديل، ولم يسمعوا بمقالات طه حسين، ولم يعرفوا كفاحه، ولم يعرفوا ترجماته، ولم يعرفوا قيمة مبدأ الشك الذي طرحه في دراساته، وهم، وإن اختلفوا مع شيء يجهلونه، لذلك يعادونه فالمفروض ألا يغيب عن أذهانهم أن طه حسين سيد الأسلوب الناصع السهل الممتنع، وإن غاب عنهم فالكارثة أكبر، فتخيلوا من يقدم لنا الإعلام والثقافة والتنوير! بغض النظر عن مواقفه التي صنعوها على مقاساتهم! يا جماعة طه حسين حين تعد العبقرية فهو أحد ساداتها وسدنتها، أقول العبقرية بالمطلق، فما بالنا عندما يكون الحديث عن البصر والبصيرة؟ وعندما يتحدث الإنجاز فإنه يتحدث باسم طه حسين وجهوده عندما أجرى محاولات لتطوير التدريس الأزهري وهو الذي عانى منه، وإذا ذكر المسؤول، وأظنهم لا يعرفون، فإن طه حسين صاحب مجانية التعليم في مصر، وإذا ذكر التدريس فطه حسين بشهادة طلابه لم يقرر على طلابه يوماً أوراقاً جاد بها، وكان في كل محاضرة يأتي بعربة من المصادر والمراجع ليعلم طلابه بأن العلم من المصادر والمراجع، سامحهم أيها القارئ، فهم لا يعرفون، ولم يقرؤوا مقالاته العميقة (من بعيد وغيره) والأدهى أنهم لا يعرفون مقدار الاحترام الذي كان يحترمه خصومه ومعاصروه من أمثال الرافعي الذي يتلطون في ظله، وأظنهم يتلطون بشكل جاهل، فهم لم يقرؤوا كتابه (المساكين) ولا (السحاب الأحمر) ولا (حديث القمر) ولم يقرؤوا كتابه (تاريخ الأدب العربي) وإن كان يزين مكتباتهم، وأزعم يقيناً أنهم لم يقرؤوا كتابه (تحت راية القرآن) وهو جزء من كتابه تاريخ الأدب، ولا يستطيعون قراءته لصعوبته، والحديث بالحديث يذكر فإن أحد هؤلاء المتسلطين على (نور الشام) منذ أسبوعين منح الدكتوراه للرافعي فقال الدكتور مصطفى صادق الرافعي، وأظن فعله هذا كان نكاية بطه حسين، فالرافعي عنده دكتور كذلك، وما حدا أحسن من حدا!
أظن أن طه حسين لم يرد حتى ذكره بين العباقرة من هذا التوجه الخطر، فهو وخصومه ماتوا، ونحن نقصي طه حسين نيابة عن خصومه الذين لم يقصوه، وإنما قارعوه وجالسوه واحترموه على الأقل أكثر مما يحترم هؤلاء عقول المشاهد السوري المتخم بالثقافة التنويرية، لذلك لا يريد هذه الثقافة التي يقبض عليها سادة نور الشام في وزارة الأوقاف!
منذ مدة وأنا أتابع هذه القناة، وقد ذكرت سابقاً أنها أصبحت بلا طعم ولا رائحة طيبة، ولا يكفي أيها السادة أن تعلنوا الأذان، وأن تصنعوا الأحاديث، ومن العيب أن تصدر هذه القناة في سورية، وما أدراك ما سورية؟
شارك عدد من الإعلاميين في نور الشام بداية، وهم من أصحاب التوجه الملتزم، ولكنها كانت أكثر انفتاحاً، ثم بالتدريج تمت تصفية هؤلاء، وتم تطفيشهم، ومن منّا يمكن أن ينسى جهود مصطفى شحيبر المخضرم والتراثي.. رحل كل هؤلاء وفق خطة مدروسة ليحّل مكانهم مجموعة من المشايخ الدكاترة الذين نحترم علمهم، ولكن نجلّ إعلامنا أن يسيطروا عليه وأن يوجهوه! هم أحرار نسبياً في برامجهم الدينية، ودروسهم المملة التي تستمر وقتاً طويلاً، ولكن يجب ألا يكونوا أحراراً في توجيه البرامج الثقافية والتوعوية! ألا يكفي أنهم يفرضون الحجاب على أي سيدة تظهر ضيفة على الشاشة مهما كانت قيمتها؟ أنا لست ضد الحجاب، بل أحترمه وألتزم به، ولكن الهدف الأساسي الذي يسعى إليه مشايخنا الذي قتلتهم دهشة الإعلام وعوائده أن يستأثروا به وبعوائده، وضمن هذه السياسة تتحول نور الشام إلى قناة ذكورية تماماً، ويبقى سدنة القناة الذين يأتون بعمائمهم ولحاهم هم المسيطرين.
ولا باس عندهم أن يطردوا طه حسين حتى من نعمة العمى، وأعلم أن عدداً منهم، وهو لا يقيم جملة تامة مفيدة قد يعطي سلسلة من الأحكام على طه حسين، وربما يعدّ له أخطاء في الإملاء والنحو والأسلوب.. لكن حسب العبقرية عند طه حسين أنه عندما أثير حوله الرعاع وقد كان وزيراً، وهتفوا ضده: فليسقط الوزير الأعمى، كان جوابه بابتسامة مريرة: أحمد الله أنني أعمى ولا أرى وجوهكم الحاقدة!
ترى هل كان طه حسين يتحدث لأولئك، أم إنه يقصد جميع الحاقدين؟
عيب أيها السادة، لم يمرّ اسم طه حسين حتى في مجال النقد والشتم بين العميان في قناة نور الشام، ويبدو أن المشرفين على القناة يريدون استتابته قبل ذكره، مع أنهم لتجميل صورتهم قد يستضيفون من غير المسلمين ليقولوا: نحن غير مغلقين! لا أيها السادة إنهم مغلقون ومتطرفون وكل ذلك عن جهل لا عن علم، وقد ورد ذكر يساري في مواضيع أخرى له ما له، ولكن لا يعلمون!
أقول ذلك لأن أي حديث عن دين طه حسين كاذب، وأي حديث عن سياسته كاذب، فهو صاحب أعظم كتاب (الفتنة الكبرى)، ومن يكتبه في السيرة لا شك في عقيدته، وشاءت الأقدار أن تكذب الحاقدين فلم يمت طه حسين إلا بعد حرب تشرين بأسابيع، وكانت جملته (أحمد الله أنني لم أمت قبل انتصارنا على الصهاينة) كرّمه جمال عبد الناصر، واستضافته سورية في المهرجان الألفي لأبي العلاء، وكل قنواتنا تقدمه وتتحدث عنه، لكن ربما بإيحاء من لحية تم إقصاؤه من قائمة العميان على نور الشام، وسورية عرضت مسلسله (الأيام) مرات، واحتفت بفيلم (قاهر الظلام) طويلاً. أمام هذه الحجج أسأل القائمين على القناة: لماذا تحدثوا عن المعري وهو متهم بالزندقة عند كثيرين ولِمَ تحدثوا عن بشار بن برد وهو الزنديق والشعوبي عند مرجعيات مماثلة؟
سألني ابني: لمِ لم يذكروا طه حسين في ندوة (نور الشام) فقلت له: لأنه المبصر الوحيد، وهم غير قادرين على رؤيته وطلبت من ابني أن يدون بيتين قالهما مصطفى صادق الرافعي:
إن تنقلب لصّ العفاف لمن تحب فمن أمينه
كالقبر غطته الزهور وتحته عفن دفينه
فهم قصدي، ضحك بألم، وشهدنا معاً حجب نور الشام الرؤية عن سيد الأسلوب الناصع طه حسين، الإرهاب والتطرف في الفكر قبل القتل والذبح، فذاك نتيجة! شهد به عباس محمود العقاد صاحب العبقريات واللغة والتراث، وإبراهيم مدكور رئيس مجمع اللغة العربية في القاهرة فهل هما غير ثقة؟
عميد الأدب العربي.. حتى لا ننسى
ولد طه حسين عام 1889، في محافظة المنيا في الصعيد الأوسط المصري.
ولم يمر على عيني الطفل أربعة من الأعوام حتى أصيبتا بالرمد ما أطفأ النور فيهما إلى الأبد، ويرجع ذلك إلى الجهل وعدم جلب أهله للطبيب بل استدعوا الحلاق الذي وصف له علاجا ذهب ببصره، وكان والده حسين عليّ موظفاً صغيراً رقيق الحال في شركة السكر.
أدخله أبوه كتاب القرية للشيخ محمد جاد الرب لتعلم العربية والحساب وتلاوة القرآن الكريم، وحفظه في مدة قصيرة أذهلت أستاذه وأقاربه ووالده الذي كان يصحبه أحياناً لحضور حلقات الذكر، والاستماع إلى سيرة عنترة بن شداد وأبو زيد الهلالي. وهو طه بن حسين بن علي بن سلامة (1889 – 1973م) أديب وناقد مصري، لُقّب بعميد الأدب العربي.
غيّر الرواية العربية، مبدع السيرة الذاتية في كتابه «الأيام» الذي نشر عام 1929.
درس في الأزهر، ثم التحق بالجامعة الأهلية حين افتتحت عام 1908، وحصل على الدكتوراه عام 1914 ثم ابتعث إلى فرنسا ليكمل الدراسة.
وعاد إلى مصر ليعمل أستاذا للتاريخ ثم أستاذا للغة العربية وعمل عميدا لكلية الآداب، ثم مديرا لجامعة الإسكندرية، ثم وزيرا للمعارف. من أشهر كتبه: في الشعر الجاهلي (1926) ومستقبل الثقافة في مصر (1938), حديث الأربعاء، تاريخ الأدب العربي، علي هامش السيرة، الوعد الحق، دعاء الكروان، الحب الضائع، من بعيد وكتب كثيرة.
قال عنه عبَّاس محمود العقاد إنه رجل جريء العقل مفطور على المناجزة، والتحدي فاستطاع بذلك نقل الحراك الثقافي بين القديم والحديث من دائرته الضيقة التي كان عليها إلى مستوى أوسع وأرحب.
وقال عنه الدكتور إبراهيم مدكور إنه اعتاد تجربة الرأي وتحكيم العقل واستنكر التسليم المطلق ودعا إلى البحث والتحري بل إلى الشك والمعارضة وأدخل المنهج النقدي في ميادين لم يكن مسلَّماً من قبل أن يطبق فيها وأدخل في الكتابة والتعبير لوناً عذباً من الأداء الفني حاكاه فيه كثير من الكُتَّاب وأضحى عميدَ الأدب العربي من دون منازع.