من باب البريد إلى باب النصر سوق الحميدية رئة دمشق … سوق يختزن تاريخ مدينة دمشق ويفتحها على الحياة الغنية
| منير كيال
ما إن خرجت مدينة دمشق من شرنقتها داخل سورها، وامتدّ عمرانها، حتى أقيمت بها أسواق لتوفير حاجات الناس، فكان تبادل السلع بين مدينة دمشق وأريافها المجاورة. قد أدى هذا التبادل بين المنتج والمستهلك إلى ارتباط بالحرف بادىء أمرها، يوم كانت الحرف تنتظم بإطار مشيخة الكارات. الذي كان محكوماً بأعراف تبرمج العمل بالحرفة وتوطد الصلة بين العاملين بكل حرفة من معلمين وصناع وأجراء على أساس من المودّة والمحبة والإخلاص للحفاظ على جودة منتجات الحرفة وصولاً إلى توثيق الصلة بين المنتج والمستهلك، ولذلك تجمع العاملون بالحرفة الواحدة بسوق خاصة بها. يحمل اسم الحرفة فكان للنحاسين حرفة وللنجارين أيضاً حرفة ومثل ذلك للخياطين والصناعيين والقباقبية والمحايرية وعلى ذلك قسّ.. ومن ثم وجدت أسواق أخرى للمواد الأولية لكل حرفة كسوق الصوف وسوق القطن وسوق الحرير.
ثم نشأت أسواق أخرى بأحياء مدينة دمشق، وخاصة حول مناطق ما يحيط بالجامع الأموي وأسواق أخرى بأحياء مدينة دمشق. فكان سوق الحميدية أهم أسواق مدينة دمشق، لتزويد الناس بحاجاتهم من الملابس والأقمشة الفائقة الجودة، والإكسسوارات النسائية والمصنوعات الشرقية، وغير ذلك مما يقبل عليه أهل مدينة دمشق وزوّارها. ويمتّد هذا السوق من الباب الغربي للجامع الأموي المعروف باسم باب البريد شرقاً وحتى باب النصر الذي كان بالدرويشية غرباً. وقد كان نشوء هذا السوق بديلاً لسوق الأروام. وكان نشوءه على مرحلتين:
كانت المرحلة الأولى بعصر السلطان العثماني عبد الحميد الأول سنة (1780) للميلاد وكانت المرحلة الثانية بعهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني سنة (1884) للميلاد ولما كان سقف هذا السوق من الخشب، فقد تعرّض للحريق أكثر من مرة، من ذلك الحريق الذي حصل سنة (1911)م والحريق الذي كان سنة (1920)، وهو الحريق الذي استمرّ ثلاثة أيام فقضى على كثير من معالم السوق ومحالّه التجارية. فاستبدل سقف السوق الخشبي بسقف من الحديد التوتياء وقاية للسقف من الحريق.
ونجد على جانبي السوق الشمالي والجنوبي عدداً من التفرعات التي يشكل كل منها سوقاً خاصاً، فأهم التفرعات كانت بالجانب الشمالي من سوق الحميدية. وقد كان سوق العصرونية أهم تفرعات الجانب الشمالي من سوق الحميدية ويأتي بعد ذلك تفرع باب البريد والتفرع الذي كان يشكل سوق الخجا القديم.
يتفرع سوق العصرونية مقابل تفرع زقاق المرستان المؤدي إلى أسواق الحريقة وهو بالجانب الجنوبي من سوق الحميدية، بالمنطقة غير المسقوفة من سوق الحميدية، وهي المنطقة التي تفصل بين الجانب الشرقي عن الجانب الغربي لسوق الحميدية.
وقد جاءت تسمية سوق العصرونية نسبة للمدرسة العصرونية التي بناها شرف الدين بن عصرون الموصلي الدمشقي سنة (1150) للميلاد. ثم شملت التسمية الأسواق الواقعة بتلك المنطقة.
وقد أخذ سوق العصرونية عند تفرعه جهة الشمال ممتداً بمحاذاة الجدار الشرقي لقلعة مدينة دمشق.
وتجد بالجانب الشرقي لسوق العصرونية محال لبيع المصنوعات الشرقية ولوازمها، ومحال لبيع أدوات المطبخ والمائدة. أما الجانب الشمالي من سوق العصرونية فمحاله لبيع حاجات كسوة الأبنية ولوازم النجارين، أما ما كان بالجانب الغربي فقد أزيل ما كان يجاور قلعة مدينة دمشق لكشف الجدار الشرقي لهذه القلعة.
ومن جهة أخرى تجد وسط الجانب الشرقي لسوق العصرونية عندما كان يعرف باسم بنك مرقدة تفرعاً يوصل إلى محلّة باب البريد. وهذا التفرع يتجه شرقاً، فيؤدي إلى سوق ابن عصرون الذي نجد به مشيدات نذكر منها: دار الحديث الأشرفية ودار الحديث النورية والمدرسة العادلية كما نجد بجهة الشمال من سوق ابن عصرون تفرعاً يوصل إلى محلّة البحرة الدفاقة التي توصل بدورها إلى محلّة المناخلية بشارع الملك فيصل.
كما أنّ من الأسواق المتفرعة عن الجانب الشمالي لسوق الحميدية أسواقاً أخرى نذكر منها سوق مردم بك الذي يوازي تفرعه تفرع سوق البورص الذي كانت محالّه تهتم بأعمال الصيرفة والتحف الشرقية، وألبسة الرياضة، إضافة إلى محال بيع ألعاب الأطفال. وكذلك سوق الجرابات التي يتفرع إلى الغرب من سوق العصرونية قبالة جادة السليمانية (الحريقة)، وهذا التفرع إلى سوق شاكر غازي، الذي كان به مكتبة القصيباتي التي كانت تضمّ نفائس الكتب النادرة.
كما كان بنهاية الطرف الشمالي من سوق الحميدية من جهة الشرق، ما يعرف بوكالة العشا التي كانت تنفتح على سوق الحميدية بالغرب من تفرع باب البريد عن سوق الحميدية، وكانت هذه الوكالة من طابقين، يتوسط الطابق الأرضي منها مساحة أو باحة مسقوفة بقبة، ومن الأسواق التي تتفرع أيضاً عن جهة الشمال بسوق الحميدية سوق كان يعرف باسم سوق الخجا، وقد كان هذا السوق يمتد باتجاه جهة الشمال عابراً الجدار الغربي لقلعة مدينة دمشق، ثم أزيل هذا السوق ونقل إلى شارع الثورة إلى الغرب من بناء التأمينات الاجتماعية وذلك لكشف جدار قلعة مدينة دمشق الغربي.
أما تفرع باب البريد عن الجانب الشمالي لسوق الحميدية، فهو عند التقاء سوق المسكية بالبداية الشرقية لسوق الحميدية وهو يقابل تفرع سوق الحرير الذي ببداية الجانب الجنوبي من سوق الحميدية، يتجه تفرع باب البريد المذكور نحو جهة الشمال حتى زقاق الكلاسة، وهو يلتقي بالفرع الذي يتفرع عن سوق العصرونية المشار إليه، ونجد بهذا السوق محال بيع أدوات القرطاسية واللوازم المكتبية، ومحال بيع الأقمشة وألبسة الأطفال، فضلاً عن محال بيع الأحذية.
أما على الجانب الجنوبي من سوق الحميدية فنجد تفرع سوق القوافين وسوق الحرير والتفرعات المؤدية إلى أسواق الحريقة، فقد كان تفرع سوق القوافين يتجه جنوباً وصولاً إلى سوق الصاغة القديم.
أما تفرع سوق الحرير عن سوق الحميدية، فهو مقابل تفرع باب البريد الآنف الذكر، وهو يمتد باتجاه الجنوب ليتصل بسوق الخياطين ثم بسوق مدحت باشا ونجد بسوق الخياطين خانات تحولت إلى أسواق، منها خان المرادية وخان قطنا وخان الجمرك وخان الزعفران وخان الحرمين وخان الجواري، فضلاً عن مقام نور الدين الشهيد، إضافة إلى ذلك كان بسوق الحرير حمام القيشاني الذي كان مفروشاً بالرخام والمرمر، وتتوسطه بحرة مبنية من المرمر، وله قبة محمولة على أقواس، وقد تحول هذا الحمام إلى سوق من طابقين، تجد به النساء، ما يحتجن إليه من المطرزات وأثواب العرائس.
أما التفرعات الأخرى التي بالجانب الجنوبي من سوق الحميدية، فهي التفرعات المؤدية إلى أسواق الحريقة التي تقع بين الجانب الجنوبي لسوق الحميدية والجانب الشمالي لسوق مدحت باشا، وقد كان مكان أسواق الحريقة منطقة سكنية لأسر دمشقية عريقة، حيث تسمى المنطقة باسم سيدي، وقد قصفتها سلطات الاستعمار الفرنسية إثر قيام الثورة السورية الكبرى، رداً على هذه الثورة وذلك سنة 1925 فتهدمت سيدي عامود، وعرفت المنطقة باسم الحريقة، ونذكر على سبيل المثال من الدور التي كانت لسيدي عامود، دار مراد القوتلي التي نزل بها الفراندوق الروسي نقولا عند زيارته مدينة دمشق كما أقام بها إبراهيم باشا بن محمد علي باشا خلال فترة الوحدة بين سورية ومصر بين عامي (1823- 1840).