كثر هم الذين لا يعنيهم هذا اليوم. يوم إعلان رحيل عام وقدوم عام آخر. كثر هم الذين ينامون في ذات الساعة المعتادة لنومهم، دون احتفال، أو توقف عند هذا التاريخ، الذي تحتفي به الأغلبية العظمى من البشر.
صحيح أن المناسبة الفلكية والدينية أخذت وجوها استهلاكية، وربما في حالات كثيرة فقدت فرصة تأملها الضرورية، لكن أليس هذا هو حال كل شيء تقريبا؟
كل القيم، وكل المناسبات تخضع لهذا التحدي، والعبرة هي في صمودها بشكلها التقليدي لدى قسم من الناس، علما أن أشكال الصمود تخضع لتفسيرات متطرفة أحياناً هي الأخرى.
كان مدير مدرستنا الثانوية ينتقد استعداد العائلات لسهرة رأس السنة كل عام، مذكراً إيانا أن هذه الليلة هي كأي ليلة أخرى، نقلب بها الروزنامة نحو يوم جديد آخر، لا يختلف عما سبقه بشيء.
وكانت المشايخ ترفض الاحتفال، وتدير ظهرها لهذه الليلة لأن العيد غربي، وليس تماما عيدنا نحن المسلمين، وكان مثقفون يسخرون من هذا الشغف في محيطهم، بالاحتفال بعيد رأس السنة، لدى قوم(أي نحن) لا يحسبون أي حساب حقيقي للوقت ومرور الزمن، ولدى أمة بالمفهوم العام، تبجل الماضي أكثر من اهتمامها للمستقبل.
كلها وجهات نظر فيها من الصحة ما يجعلها حاضرة في أي نقاش جدي، ولكنه في النهاية، هذا اليوم أو هذه الليلة هي ليلة اتفق الجميع فيها بتأثير عوامل كثيرة، لا شك أن الضخ الثقافي الغربي جزء أساسي فيها، على جعلها ليلة احتفال، وفرح، لا تحسر ووقوف على الأطلال.
حلول الساعة الثانية عشرة ليلا ودقيقة، وانقلاب تاريخ عام، فرصة جيدة للتأمل.
ليس بالضرورة ليلة السهرة، ولكن في الأيام التي تلي ذلك اليوم. فنحن على تواضعنا، وقلة شأننا نعيش التاريخ. نعيش الأعوام التي نراها أرقاما مجردة، ولكنها في واقع الأمر محطات في السلسلة التاريخية الممتدة منذ ألفي عام وحتى الآن.
إننا من جملة أولئك الذي عاشوا أو ما زالوا أحياء يشكلون جزءا من حيوية هذه الحياة البشرية، ولو بصورة قشة في عرض البحر.
هذا يجعل هذا اليوم مميزا، من ضمن عوامل أخرى شخصية لدى كل منا. على الأقل في النواحي التي تدخل ضمن إرادتنا، وقدراتنا.
في النتيجة، الاحتفال ليس المشكلة، والتاريخ ليس سوى محطة.
في عام من أعوام الدراسة، حل رأس السنة وأنا مغترب في بريطانيا.
كنت طالبا، مقيما لمدة قصيرة في فندق صغير، حماماته مشتركة لكل النزلاء. نزلت أتمشى في الشوارع، حاسدا أي حشد يزيد على شخص واحد التقيت به في طريقي.
حتى وصلت ساحة ترافلغار التي أغلقتها الشرطة في وجه السيارات.
كان هنالك آلاف البشر. وقفت بين من ظننتهم من جيلي، فناولوني كأس شراب، دون معرفة.
وفجأة وجدت نفسي أحتفل مع أشخاص لا أعرفهم. حلت الثانية عشرة وقبل كل شخص من وجد قبالته. عدت الفندق بآثار قبلة ودوار شمبانيا رخيصة.
في سرداب غرف الفندق افترش شباب وشابات الطريق، مستندين للجدار والأبواب يتبادلون أقداحا وسجائر، ويتحدثون بإنجليزية الأجانب.
قال لي أحدهم ممازحا تستطيع أن تمر لغرفتك، وتستطيع أن تبدأ العام الجديد معنا.
اخترت الثانية، إذ ليست كل الأيام مثل بعضها البعض. وبين خفقة جناحي العامين ثمة ما يمكن تذكره طويلا.