اعتدنا فكرة أننا نعيش زمناً غرائبياً، تقدمت فيه وسائل الاتصال والتواصل، وتجاوز العلم فيها كل توقعاتنا، وبات في منافسة مع المؤلفين، وأصحاب المخيلات الثرية، في أبحاثه لصنع كل ممكن، وتحويل كل محتمل لواقع ملموس.
وأيضاً اعتدنا الحروب، ونتائجها، فمنطقتنا وحدها كانت غنية بها، وما زالت حبلى بالكثير منها، وتجاربها فيها تملأ مئات الكتب، وتستطيع أن تشغل مراكز الأبحاث لعقود قادمة في تحليلها وبحثها، وإطلاق الأحكام فيها وعنها، بشكل مجافٍ للحقيقة ومقارب لها في الوقت ذاته.
واعتدنا تفكك الأوطان، وإعادة تشكلها، سواء كان ذلك بالعقود الأخيرة، أو في مسار التاريخ الطويل الذي نحفظه، وبالتالي اعتدنا حجم الدمار والتضحيات الذي تترتب عليها تلك التحولات السياسية، سواء جاءت من الداخل أم بتدخل خارجي، سواء كانت بسبب حجم الرغيف وتوافره من عدمه، أم بسبب آبار النفط ومناجم الذهب، فإن آثارها المدمرة على المجتمع، لا يمكن إخفاؤها أو تجنبها، وذلك بينما يقاتل هذا المجتمع للبقاء، رمزياً وعملياً، فيشكل دوما درع التصدي الأخير، عن الهوية، والتراث، والأمل بالمستقبل، وذلك بما بين يديه من وسائل فقيرة، وهو يجاهد كأفراد وكأسر لتأمين استمرارية العيش.
مع هذا فإن عنصر المفاجئة، كثيراً ما يحل ليكسر رتابة الاعتياد. ففي العلم، تقول إنك بت مستوعبا أفق الاختلاق اللامحدود، لتُفاجأ بعلماء يقولون إنهم وجدوا سراً مبتكراً للخلود، يتمثل في تخزين ذواكر البشر وبياناتهم الشخصية جداً في سحابات افتراضية الكترونية، تسمح لأحفاد أحفادهم بالتواصل معهم، ومن ثم حين يصبح هذا واقعا بعد أعوام أو عقود، يصبح الإنسان ممتلكا شكلا من أشكال الخلود الروحاني، وقناة اتصال بالماضي لا تقطع.
وفي الحروب، وبعد أن تشعر أنك سمعت ورأيت كل شيء، يأتي تصريح من شخصية عربية رائدة، وفي لحظة استثنائية ليقول إن سورية لا يمكن تدميرها، فهي عبر التاريخ نهضت أربعين مرة، والنهوض القادم لن يكون مستحيلاً.
فيمنحك هذا الكلام الذي يأتي من مكان غير منتظر، بتفاؤل يفاجئك، وأنت تعيش الأزمات اليومية التموينية، بتفاصيلها.
ويشعرك بأن استيقاظك اليومي للعمل، يتم تقديره، إن لم يكن من قبل مديريك وحكومتك، فعلى الأقل في كتب التاريخ التي ستكتب.
وبينما تنتعش بلدان وتقاتل بلدان للعودة لنسق الحياة الطبيعية، تُفاجأ بخيانة من نوع مختلف.
إذ يخرج شاب، طموح وموهوب، ليسرق فرحة جماهير بلد بأكمله، في مباراة كرة قدم مهمة، فيهدي هزيمته لآمال شعبه لشعب آخر، مقابل اعتراف مادي، مبتهجا بنجاته الشخصية، ومفاخرا بها، ليلخص كما حكايات تاريخية كثيرة مستوى الانحدار الأخلاقي الذي يصيب البعض في أوقات الأزمات والمواجهات.
والذات عكسه، تراه، حين تجد منكوبا يعزيك، فيشد على يديك، وأنت من يجب أن يعزيه، أو مريضة تقوم بعناء مواساة من كتبت لهم النجاة من حرب ظالمة، لتمنحهم عزم الاستمرار في القتال من أجل مواصلة العيش، والإنتاجية بشتى الأشكال الممكنة.
وذات العزيمة تفاجئك، وهي تصدر عن شبان وشابات، يتبارون في علوم الرياضيات، والفيزياء، ويتحضرون لمنافسات دولية، تاركين بينهم وبين أزمات الحياة اليومية التي ستنتهي يوماً ما، نظرتهم لمستقبل أفضل.
مواقف كهذه تكسر الاعتياد، وتنبهك أن الحياة هي وجبة من كل هذا، عليك قبولها والاستمرار فيها.