على الأرجح أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم يكن ليعلم أن قراره الانسحاب من سورية، سيعيد أربيل إلى بؤرة النشاط الإقليمي والدولي حول الشرق الأوسط؛ إذ على حين تتعقد المناورات الدولية والإقليمية حول مصير الشرق السوري، يتحرك مركز الثقل الإقليمي إلى إقليم شمالي العراق، حيث يفرك زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاتي مسعود بارزاني، يديه من الفرح، وهو يرى تتدافع الوفود على مكتبه محملين بالعروض المغرية للإقليم.
سيحول الانسحاب الأميركي المخطط من شرق سورية إلى غربي وشمالي العراق، إقليم كردستان العراق إلى القاعدة الأساسية للوجود الأميركي في الهلال الخصيب، ما يعزز أدوار الإقليم، ويخرجه من عثرة الاستفتاء التي حطمت أحلام بارزاني بالانفكاك عن بغداد. من جهة أخرى، تشير خطط الانسحاب إلى توجه إدارة الرئيس دونالد ترامب، إلى إرخاء علاقاتها مع مليشيات «وحدات حماية الشعب» الكردية، استجابةً للضغوط التركية، الأمر الذي من شأنه أن يصب في مصلحة منافسها السوري «مجلس الوطني الكردي» المقرب من الحزب الديمقراطي الكردستاني. بهذا تتعزز مواقع الحزب داخل الساحة الكردية الإقليمية. ولقد سبق للبارزاني أن انفرد بين القوى الكردية بعلاقاتها الوثيقة بالأميركيين، وتأثرت علاقاته بهم بعد اكتشافهم لـ«وحدات حماية الشعب»، والانسحاب الأميركي يعيد لبارزاني مكانته الأولى كحليف واشنطن الأول على الساحة الكردية الإقليمية.
بدورها، تعول القوى الإقليمية المنخرطة في «التحالف الدولي ضد تنظيم داعش»، أيما تعويل على توسيع دور أربيل في المنطقة بعد الانسحاب الأميركي من شرقي سورية. ولقد أعدت مصر والإمارات بدعم سعودي، مقترحاً لانتشار قوات مختلطة من ميليشيا «النخبة» التابعة لرئيس «تيار الغد» أحمد الجربا وميليشيا «البيشمركة السورية» التابعة لـ«المجلس الوطني الكردي»، التي تلقت تدريباتها في كردستان العراق على يد مدربين من قوات البيشمركة في الإقليم، على طول الحدود التركية السورية بعد الانسحاب الأميركي من سورية، وأن تكون مدعومة بمستشارين من قوات دول التحالف المتبقية بعد الانسحاب الأميركي، وربما في ذهن تلك القوى الإقليمية أن تنتشر تلك القوات المختلطة على الحدود السورية العراقية.
حتى الآن، لم يبد الأتراك أدنى تقبل، لهذا المقترح الذي يستهدف، بنظرهم، المحافظة على بقاء ميليشيا «حماية الشعب» التي تعتبره أنقرة بمنزلة فرع سوري لـ«حزب العمال الكردستاني» المحظور في تركيا. الرفض التركي ينبع من أن المقترح يمهد الطريق أمام نشوء «إقليم كردستاني» جديد هذه المرة على الأرض السورية، يديره أحد فروع «حزب العمال الكردستاني». على الرغم من مخاوفهم حيال نشوء كيان جديد في شرقي سورية، إلا أن الأتراك يعلمون أن تنقلاتهم العسكرية في شمالي سورية، التي قد ينفذونها في الأشهر المقبلة، بهدف تحريك الجمود في العلمية التفاوضية مع واشنطن وموسكو، غير واردة من دون تفاهم مسبق مع إقليم شمالي العراق وحليفه السوري «المجلس الوطني الكردي».
المفاوضات الأميركية التركية حول مصير شرقي سورية، ستكون شديدة التعقيد، وستطرق إلى مسائل: القواعد الأميركية بعد الانسحاب، عديد وحدات حماية الشعب، تسليحها، مناطق انتشارها، تحالفاتها مع القوى الموجودة في المنطقة. ولعل المسألة الأولى والأساسية هي: مصير المسلحين الأتراك الذين يقاتلون ضمن «وحدات حماية الشعب»، الذين سبق أن «نزلوا» من جبال قنديل في شمال العراق من أجل مؤازرة «إخوانهم» لصدّ هجمات المسلحين، ولاحقاً الدواعش. وضمن السيناريوهات كافة، سيكون على هؤلاء المقاتلين العودة إلى «قنديل»، الأمر الذي يعيد إقليم كردستان العراق إلى الواجهة في المفاوضات الأميركية التركية.
أخيراً، فإن تعزز موقع بارزاني، وحزبه، على الصعيد الإقليمي، سيترك آثاره على العلاقة الحساسة بين أربيل وبغداد.
ستتكشف الأيام والأسابيع المقبلة عن المزيد من المشاهد التي تبرز عودة إقليم كردستان العراق إلى اللعبة الإقليمية، وبقليل من المناورة يمكن لبارزاني أن يبوئ الإقليم مكانة بارزة في تنظيم واقع ما بعد الانسحاب الأميركي من شرقي سورية. إذا حصل ذلك، فيمكن القول: إن كل الطرق تؤدي إلى أربيل، على الأقل، في هذا العام 2019.