الأسس اللغوية الاجتماعية للترجمة … تقدم صورة شاملة لا تقتصر على نقل المعنى القريب بل بالمؤثرات التي تسهم في بلورة اللغة الهدف
| سارة سلامة
يتوافق ازدياد أهمية الترجمة بازدياد الدراسات اللغوية التي تستكشف الجوانب التي تؤثر في هذه العملية اللغوية التي تتطور باستمرار إلى درجة يمكننا أن نسميها «لغة العالم»، فهي تأخذ من كل لغة إكسيرها، أدبها وعلومها وثقافتها وتنقله إلى اللغات الأخرى، فيتفاهم الناس ويزدادون معرفة، ويغتنون ثقافة.
ويحفر كتاب «الأسس اللغوية الاجتماعية للترجمة» الصادر حديثاً عن الهيئة العامة للكتاب، تأليف موريس برغنيه، وترجمة الدكتور مروان إسبر. عميقاً في اللغة والمجتمع ليقدم للمترجم صورة شاملة يسترشد بها في عمله الذي لا يقتصر على نقل المعنى القريب، بل يجبله بالمؤثرات المختلفة التي تسهم في بلورة تشكله النهائي في اللغة الهدف.
إنه كتاب مهم للمترجم والباحث والقارئ العام لأنه يضيء اللوحة جيداً فيستطيع الرائي أن يستمتع بجمالياتها المعرفية وهي كثيرة في هذا الكتاب الذي جاء في 440 صفحة من القطع المتوسط، ويتضمن عدة فصول منها (المقاييس الثابتة للترجمة، الترجمة واللغات المتماسة، التراكيب الدلالية، الترجمة والعناصر الشمولية).
هذه الدراسة نشرت للمرة الأولى عام 1978، وبشكل قلما يجذب القارئ لأنها كانت عبارة عن نسخة مطبوعة على الآلة الكاتبة ومخصصة بالأصل للدفاع عنها كأطروحة دكتوراه في الآداب، وقد أعيدت طباعتها عام 1980، لأن الطبعة الأولى كانت بأعداد محدودة ونفدت بسرعة- ولا شيء كان يسمح بتوقع ذلك في هذه الفترة- إذ لم تكن نظرية الترجمة تهم إلا طليعة الباحثين.
تمثلت فائدة هذا الخيار بوضع العمل تحت تصرف الباحثين بسرعة، إلا أن المؤسف في ذلك تمثل من جهة في الراحة بالنسبة لقرائه، ومن جهة أخرى في وضعه ضمن حقل نشر الأفكار العلمية، أرجو أن يسمح لي هنا أن أحيي شجاعة أجيال من القراء الذين لم يخشوا النوعية الرديئة في طباعة النسخة الأصلية التي كانت لتصل أحياناً، علينا أن نقول ذلك، إلى الحدود الدنيا للقراءة، وذلك ليشقوا طريقاً نحو جوهر الكتاب، مثلهم كمثل الحاج الذي يواجه قسوة حجارة الطريق، للوصول إلى هدفه.
الترجمة علم أو فن!
وجاء في المقدمة إنه «من دون التشكيك في شرعية المقاربة العلمية للترجمة، ومن دون الاعتراض بالضرورة على علمية مساعي أولئك الذين أرادوا إرساء أسس لعلم كهذا، فإنه لا يمكننا مع ذلك إلا أن نتساءل حول ما يمكن أن يؤسس لعلم في هذا الاسم، حول موضوعه، وحول خصوصية مناهجه. إن الأمر لا يتعلق بالتأكيد بالانحياز في مسألة النزاع القديم «هل الترجمة علم أو فن»؟، ولا حتى بالتساؤل حول معرفة فيما إذا كان يمكن للترجمة أن تكون موضوع علم ما (إن شروعنا في كتابة هذا المؤلف يبين بشكل كاف أننا نعتقد ذلك)، ولكن بأن نتساءل إن كانت تستطيع أن تكون موضوعاً لعلم خاص ومستقل. يمكن التشكيك في هذا لأسباب عديدة، يمكننا في البداية أن نلاحظ أن الظاهرة التي يغطيها لفظ «ترجمة» لا يشتمل، رغم المظاهر، على حدود واضحة ومحددة نقاطه بشكل واضح، ولا يمكننا بالتأكيد أن نشك في وجود الترجمة، ولكن ما يمكننا التشكيك فيه أكثر هو وجودهما كمجال معرف مسبقاً وقابل لأن يتلقى معالجة علمية وحيدة، والأكثر ترجيحاً، هو أن يكون هذا الموضوع المعرف بشكل سيئ يتعلق بالعديد من المقارنات العلمية وأنه، إذا استطعنا أن نأمل يوماً مشاهدة تشكل نظرية كاملة للترجمة، بيد أنه وبالمقابل ليس من الحق أن يكون لعلم الترجمة الحق بأن يصنف بين علوم الإنسان، إلى جانب- مثلاً- علم النفس وعلم الاجتماع وعلم اللغة إلخ.. ولا نريد بذلك الدليل على أن هؤلاء الذين يدعون أنهم أسسوا (علم الترجمة) لا يفعلون شيئاً آخر معظم الوقت سوى دراسة الترجمة من وجهة نظر علمية أكثر اتساعاً وكتطبيق لهذا العلم».
الترجمة واللغات المتماسة
لأن الرسالة اللغوية الخاضعة للترجمة، لا وجود لها بحد ذاتها بل من خلال عملية الإبلاغ فقط، أي عن طريق اللغة التي تتواسط لها على مستويين كنا قد درسناهما، تربط العملية المترجمة لغتين: لغة البلاغ الأصلي ولغة الترجمة.
إن عملية إبلاغ الرسالة المترجمة لا تتم، في الواقع، انطلاقاً من معنى يجري الوصول إليه بذاته، في نطاق التجريد المطلق، بل على العكس انطلاقاً من عملية الإبلاغ الأصلية، وتكون بالنتيجة تابعة لها. بوساطة الرسالة، وبدرجات متنوعة (حسب المترجم ونوع الترجمة، إلخ..)، تكون هاتان اللغتان على تماس، وينتج بينهما تداخلات: فعبر الرسالة يدخل في تماس نظام استنباط للمعنى ونظام شيفرتين لغويتين (deux codes).
لكي نستطيع البحث في نتائج هذه التداخلات على اللغات المعنية كما على الرسالة، فمن الضروري في البداية أن نوضح ما العلاقات التي تربط الترجمة بالتداخلات اللغوية، على ألا نعدّ حالياً اللغات إلا على أنها أنظمة قواعد الاستنباط. في كتابة النظرية اللغوية للترجمة /A linguistic theory of translation/، يميز كاتفورد، داخل الترجمة عدداً من الدرجات التي يسميها (وفقاً للمصطلحات التقليدية): الترجمة «كلمة بكلمة، والترجمة الحرفية، والترجمة الحرة».
وجهة نظر لغوية
ووجهة نظر لغوية اجتماعية، من وجهة نظر تركيبية بحتة، يمكن الاعتراض على القول إن القيم التي استخرجناها بأنها «دلالات» للإشارات اللغوية هي وحدها التي يجب أن تأخذ اسم المدلول، وأن تعد مرتبطة باللغة المجردة، لأن المعاني المتعددة التي يمكن لها أن تكسبها في عملية «التسمية» تتعلق أيضاً بشكل واضح بهدف الوصول إلى التوافق الذي أرجعناه إلى الكلام.
بمعالجتنا في وقت واحد الإشارات اللغوية من زاوية القيمة في النظام، ومن زاوية «المسمى»، يبدو أننا رجعنا إذاً إلى أنموذج التحليل ما قبل التركيبي، وأعدنا إدخال ما هو محتمل وعارض في ما هو نظامي.
كتب إميل بنفينيست الذي يعد، من بين اللغويين المعاصرين، أحد أولئك الذين انكبوا على دراسة هذا الجانب من الأمور بطريقة أكثر تعمقاً، إن «الكلمات المنتظمة في تسلسل الجملة التي ينتج معناها بدقة عن الطريقة التي يجري تنسيق هذه الكلمات بها، ليس لها استخدامات. وإن معنى كلمة هو في قدرتها على أن تكون جزءاً من نظام خاص وأن تؤدي وظيفة في الجملة. وما ندعوه تعدد المعاني ليس سوى المجموع المنظم، إن أمكننا القول، لهذه القيم الناتجة عن السياق، والتي هي دائماً وليدة لحظتها، وجاهزة بشكل دائم للإغناء، والاحتفاء أي باختصار من دون استمرارية أو قيمة ثابتة».
اللغة الاصطلاحية
كمفهوم لغوي اجتماعي، عملية التحويل للغة اصطلاحية، إن التحليل التزامني للغة الإنكليزية لا يستطيع إلا أن يثبت وجود هذا «التعبير» وهو ليس إبداعاً لمتحدث خاص (كما هو عليه الحال في البلاغ القريب/he is selling cats and dogs/ حيث الارتباطات الدلالية حرة)، ولا يستطيع إلا أن يلحظ أن ترجمتها إلى لغة أخرى سيتطلب من جانب المترجم تحليلاً لا يتوافق مع التحليل إلى كليمات وكلمات قواعدية، إنه لا يستطيع سوى ملاحظة أنها تشكل جزءاً من موضوع مشترك سيشكل أيضاً اللغة، لكن من وجهة نظر أخرى غير تلك المرتبطة بالنظام السيميولوجي للغة.
من خلال هذا الربط في الترجمة يتبين لنا أن اللغات اصطلاحية، أي يظهر أن تحليلاتها للبلاغ لا تتطابق فيما بينها. إن «التعبير الاصطلاحي» لا يكون اصطلاحياً إلا من خلال المقارنة مع تعبير آخر يكون مكافئاً له في لغة أخرى. لهذا لا يكون التعبير الذي ذكرناه اصطلاحياً باللغة الإنكليزية إلا أنه لا يمكن أن يترجم بشكل صحيح بالفرنسية بالتعبير «إنها تمطر قططاً وكلاباً»، وكذلك الحال بالنسبة لتعبير he swam across the river/، فهو ليس تعبيراً اصطلاحياً بالإنكليزية، إلا أنه لا يمكن نقله مباشرة إلى الفرنسية بعبارة «كان يسبح عبر النهر».
أن تظهر اصطلاحية اللغة من منظور قواعدي أو من منظور مفرداتي، فهذا في كل الحالات يظهر كعدم إمكان الترجمة من خلال التحليل، وكضرورة لتقديم مكافئ عام أكثر اتساعاً من الكليمة أو الكلمة.
وإذا كانت دراسة اصطلاحية اللغة التي قدمت أدباً غزيراً في مجال تعليم اللغات، توضح لنا الطريقة المزدوجة التي يجب معها دراسة مقارنة اللغات، فهي تخفي مع ذلك حقيقة أكثر عمقاً، وهي أن عملية التحويل إلى لغة اصطلاحية ليست من صنيع بعض «الصيغ» أو «التعابير» بل إنها صنيع اللغة في شكلها الكلي.