تناقلت وسائل الإعلام خبراً منذ أيام عن أحد أساليب تطوير الأداء الصوتي في أجهزة ميكروسوفت العملاقة، وذلك عبر إنشاء غرفة «صمت» اعتبرت وفق مقاييس علمية، المكان الأكثر هدوءاً على وجه الأرض.
ورغم أن محبي الهدوء والصمت، ربما يظنون المكان جذاباً، إلا أن التفصيلات، تؤكد أهمية النسبية في قبول الأشياء من دون كمال تام، ومن دون صفاء كامل، وبدقة ناقصة مقدار شعرة.
فالغرفة التي مساحتها ستة أمتار، محاطة بست طبقات من الخرسانة، يصل سمك كل منها إلى إثنتي عشرة بوصة، ما يساعد على حجب الأصوات القادمة من العالم الخارجي، بما فيها الأكثر تردداً.
أما الجدران والأرضية والسقف فهي مغطاة بأوتاد عملاقة من رغوة الألياف الزجاجية للقضاء على أي صدى داخلها، ناتج عن أي حركة محتملة.
وقد تم تصميم الغرفة التي كلفت مليوناً ونصف المليون دولار أميركي، لأسباب علمية بالطبع، توضح شركة ميكروسوفت أنها «لضبط دقة أصوات بعض منتجاتها، مثل سماعات الرأس ونقرة زر الفأرة، من أجل أن تكون مثالية ومريحة للمستهلكين».
وبسعيها هذا احتاجت الشركة لمتطوعين طبعاً، لاختبار الابتكارات الحديثة التي تعدها، كان عليهم دخول الغرفة، والاستماع للتجارب الصوتية التي تقوم بها، إلا أن عدداً محدوداً جداً منهم استطاع احتمال الهدوء الصارم والمطلق الذي فيها.
ويقول المهندس في الشركة هوندراج غوبال، وفقاً لما تنقله صحيفة «ديلي ميل» البريطانية: إن أطول مدة قام متطوع بقضائها في الغرفة لامست حدود خمسة وأربعين دقيقة، فيما كانت أقصر مدة هي بحدود الدقيقة الواحدة.
وتنقل الصحيفة: إن شكوى المختبرين للغرفة كان ليس فقط الهدوء الثقيل المخيم فيها، بل الأصوات التي يفضحها ويضخمها هذا الصمت الغريب، ومن ضمنها تمكّن كل من دخل إليها من الاستماع بوضوح لدقات قلبه، وطقطقة عظامه ومفاصله، وإيقاع تنفسه، بشكل لم يحتمله البعض، فطلبوا المغادرة على الفور، فيما اعتبر البعض الآخر ممن احتملوا البقاء مدداً متفرقة في طولها، أن صوت الإزعاج الوحيد في الغرفة يتمثل في الأصوات الطبيعية الصادرة عن أجسادهم، والتي تصلهم من خارجه بوضوح، ما يجعل التجربة غريبة، ومتقدمة عن طبيعة الأشياء.
ويضيف غوبال الذي قاد الفريق الذي بنى الغرفة: إن عدم قدرة الناس على المكوث فيها طويلاً يمكن فهمه، فهي «تهز أدمغتهم، «وتمثل» حرماناً حسياً بكل ما تحمل الكلمة من معنى».
والكلام يذكّر، لدرجة، بتجارب من يسافرون بالطائرة على سبيل المثال، حين ننسى كمسافرين ضجيج الطائرة، فنتعاطى معه ضمن خليط الأصوات الأخرى الموجودة، وذلك إلى حين نستلقي على المقاعد المتلاصقة للنوم، فيبدأ صوت المحركات والمسننات والأحزمة المعدنية بالتسلل، ما يدفع بهواجس مختلفة، تتمثل في صور هذه القطع الميكانيكية، تعمل متناغمة، لتحملك آلاف الأمتار عن سطح الأرض، بسرعات عالية نحو وجهتك.. ولكن من دون أن تحجب تماماً فكرة ماذا لو..؟
وهي الفكرة ذاتها التي تراود مرتادي الغرفة، إذ يفضح الصمت قالبك الطبيعي الذي تحيا فيه منذ خلقت، فتعكس أصواته ضعفك، وهشاشتك، وسر وجودك في تناغم عمل تلك الخلايا والأعضاء الساحرة.
كل هذا، من الصواب أن يجعلك تقدر قيمة الأشياء غير المثالية، الجميلة من دون مبالغة، الرقيقة من دون ضعف قاتل، القوية من دون تفوق هائل، وبكل الأحوال كما يقول الفنان سلفادور دالي «لاتخف من الكمال فلن تدركه».