يبدأ الأسبوع المقبل عرض الموسم الثامن والأخير من مسلسل لعبة العروش، الذي يعد بلا منازع من أهم الانتاجات التلفزيونية على مر العصور، من نواح تبدأ بالنص الغني والبالغ الإثارة للمؤلف الروائي جورج مارتن، انتهاءً بالإنتاج المبهر والأكثر كلفة على مستوى الدقيقة التلفزيونية تاريخياً، مرورا بكل مراحل صناعة العمل الذي كسر أرقاما قياسية في كل النواحي، وصولاً لاعتباره أكثر عمل تعرض للقرصنة المعلوماتية في التاريخ.
العمل أسطوري، ويدور في عوالم خيالية، وهو مملوء بالتنانين، والسحر الأسود، والوحوش الخارقة، وهو بالنسبة لمن يعرف العمل من دون خلفية العمل الروائي، يتمثل في صراع دموي بين عدة ممالك أو اقطاعيات تاريخية على عرش مملكة موحدة يدعي كثيرون الحق فيه، وذلك بينما يهدد عدو شرس كل تلك العروش وكل الإرث الحي الموجود في العالم، متمثلا بوحوش الموتى الأحياء، الذين تنعدم القدرة على قتلهم إلا بالنار أو فولاذ أسطوري، فيتقاتل «العقلاء» والعدو الأكبر يتقدم في ظلام ليل شتاء يأتي، ولا يعرف أحد متى يمكن أن ينتهي.
الكلام عن العمل لا يعطيه حقه، ومن شاهده، يعرف هذا تمام المعرفة.
لكن ما يجدر ذكره للمعجبين العاديين، وللمهتمين الفضوليين، يتمثل فيما يتعدى العمل التمثيلي والإخراجي الرائع الذي قدمته شركة إتش بي أو الأميركية، للاحتفاء بالكاتب نفسه، الذي ألف عشرات الآلاف من الصفحات من هذا العمل، بطريقة ربما لم يخرج منها سوى ثلثيها، الأمر الذي دفع الشركة للطلب منه تأليف عمل آخر في شراكة جديدة بينهما، وتدور أحداثه قبل مئات السنين من أحداث العمل الحالية.
والمتابع قد يفاجئه الأمر، لكن الواقع أن مارتن كان مهّد لكل ما شاهدناه في سلسلته الروائية، بحيث لا يمكن إيجاد شخصية من شخصيات العمل مهما بلغ حجم مشاركتها إلا بتاريخ يمتد لشجرة عائلة نسجها الكاتب، كأنما خالق حقيقي يصنع عالمه بجغرافيته وتاريخه ولغاته المتعددة.
والمعجبون يعرفون أن العمل فيه لغات مختلقة، بجهد الكاتب، ومن وصل به حد الهوس بالعمل أعاد رسم الخرائط التي أعدها خيال المؤلف للعالم القديم، مبيناً خطوط الهجرة والصراعات التي تمتد لما قبل التاريخ مع ظهور الرجال الأوائل، والتي يمثل ظهورها رمزا من رموز حبكة العمل حيث تمتد به تاريخياً لآلاف السنين السابقة.
وتحفل الانترنت بمئات الفيديوهات التي تحاول تفسير الأحداث، أو الفرضيات التي يقدمها كل من الكتاب والعمل، والذين جرى الاتفاق بين المؤلف والجهة المنتجة على تغيير مساراتهما أحياناً، حفاظاً على التشويق ولأغراض درامية وإنتاجية.
ويتمثل حد الإبهار في حدود رغبة المعجبين في إيجاد قاعدة منطقية لرموز تم تداولها في الأعمال، وربطها بتواريخ الشخصيات، بل أيضاً بجمل نطق بها أحدهم في لقطة عابرة بالحلقات الأولى، ليتبين بعد سبع سنوات أن هذه الجملة لم تكن وليدة ارتجال ممثل أو مخرج، بل تمثل مساراً أمسك به المؤلف من لحظاته الأولى لحين تكشفه بعد سنوات.
جهد جبار لا يمكن إلا الوقوف أمامه بإعجاب ودهشة، تماثل الدهشة التي تقف بها أحياناً أمام طبيعة ساحرة تفوق في رقتها كل حدود تصورك.
حقيقة إن ذلك كله من صنع خيال رجل واحد، قرأ كثيراً وكتب بحجم ما قرأ، يجدد الإيمان بقيمة الكاتب، وقيمة دوره في زمن الموسوعات المحمولة في الأيدي.