يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد تمتلك ما يكفي من زخم سياسي أو عسكري يمكّنها من الحفاظ على نفوذها وسيطرتها السياسية والاقتصادية في المنطقة، وبشكل أحادي تماماً كما تعودت لعقود ثلاثة مضت، إلا من خلال تنفيذ ما يسمى صفقة القرن التي سيعلن الكشف عن تفاصيلها بعد شهر رمضان المبارك.
ولأن أميركا فقدت الكثير من أوراقها وأدواتها المنفذة لأجنداتها، كان لا بد من البحث عن سبل أخرى تضمن لها تفعيل الضغط الموجع على الدول التي قررت مواجهة سياساتها في المنطقة.
مجدداً، لم تجد أميركا بدّاً من إدخال النفط كعامل رئيسي في لعبة تطويع الدول المناهضة لسياساتها في المنطقة، وذلك نظراً لما لهذه المادة من تأثير على الصعيد المالي والنمو الاقتصادي لكل بلد يمتلك الذهب الأسود.
تصدرت وسائل الإعلام في الأسبوع المنصرم، خبر إقدام الولايات المتحدة الأميركية إلغاء الإعفاءات الممنوحة للدول والشركات التي تشتري النفط الإيراني، بهدف زيادة الضغط على إيران حتى الوصول إلى صفر تصدير نفط من إيران، الأمر الذي أدخل سوق النفط في العالم بحالة من الهلع والارتباك نظراً لما يخلفه القرار الأميركي من نقص فادح في أسواق النفط العالمية.
على الفور تعهدت كل من السعودية والإمارات بزيادة إنتاجهما من النفط، لسد أي عجز في سوق النفط جراء تشديد العقوبات الأميركية المفروضة على إيران.
ومع أن الصين والهند وتركيا رفضت الانصياع للعقوبات الأميركية على إيران، بيد أن تلك الدول تعاملت مع القرار بما يتناسب ومصالح كل دولة بشكل منفصل، الأمر الذي يفسح المجال أمام إيران التفلّت من العقوبات الأميركية ولو جزئياً.
صحيح أن إيران خططت منذ مدة طويلة لتخفيض اعتمادها على مردود الصادرات من النفط، وتحويل اعتمادها الأساسي على تشجيع صادرات صناعية وتكنولوجية وزراعية، ومقومات داخلية تمكنها من الاعتماد على قدراتها الذاتية، ذلك للحفاظ على استقلالية قرارها وعدم خضوعها للابتزاز السياسي من أي جهة كانت، لكن أحداً لا يستطيع نكران تأثر وتأذي إيران اقتصادياً بشكل واضح، وهذا ما دفع إيران للتهديد بإغلاق مضيق هرمز، الممر الإلزامي لنحو 45 بالمئة من نفط العالم، الأمر الذي يفتح الباب أمام نشوب حرب عسكرية تؤدي إلى كوارث اقتصادية عالمية لا تحمد عقباها.
أمام هذا الواقع، روج بعض المحللين عبر الشاشات لقرب نشوب حرب مدمرة بين أميركا وإسرائيل من جهة وإيران من جهة أخرى، الأمر الذي وصف بالكارثي إذا ما حصل فعلياً، نظراً لما له من تداعيات سلبية، ليس على إيران وحسب إنما على منطقة الخليج برمتها، وخصوصاً تلك التي تضم قواعد أميركية على أراضيها.
وهنا لابد لنا من الإضاءة، وبهدوء، على إمكانات نشوب الحرب من عدمها، خصوصاً بعد الترويج لحتمية حصولها:
1- الوضع الاقتصادي المتأزم للولايات المتحدة الأميركية سيجعلها تفكر مرتين قبل الإقدام على تمويل أي عملية عسكرية، خصوصاً أنها غير مضمونة النتائج، ولا يمكن حصرها أو ضبطها في منطقة معينة.
2- إمكانية اشتعال المنطقة برمتها وعلى جبهات مختلفة، إضافة للخسائر البشرية والاقتصادية العالية التي ستجعل أميركا بحالة عجز عن تحمل تبعات الحرب، الأمر الذي سيجبرها على البحث عن طرق وأساليب أكثر تأثيراً، ومنها تجويع الشعوب وتأليبها على أنظمتها وإثارة الفوضى بدل تحمل خسائر حرب غير مضمونة النتائج.
3- الرئيس الأميركي ليس من هواة الحروب، وهو شخصية واضحة تسعى لبيع المنتجات العسكرية بهدف جمع الأموال وليس لصرفها على حروب لا طائل منها، ولو حظي بالدعم المالي السعودي والإماراتي لدفع تكاليف أي اعتداء أميركي إسرائيلي على إيران، بيد أن الدعم سيبقى دعماً محدوداً نظراً لتورطهما بتسديد تكاليف حربهما الظالمة على اليمن.
إيران من جهتها لن تكون البادئة في إشعال فتيل الحرب في المنطقة، وهذا ما صرح به المتحدث باسم القوات المسلحة الإيرانية، نظراً لامتلاكها عوامل تمكنها من المواجهة وتجنبها الحرب أقله في المدى المنطور، أهمها:
1- اعتادت إيران التكيّف مع العقوبات الأميركية على مدى 40 عاماً بشكل متواصل، وسجلت تقدماً ملحوظاً على كل المستويات، الأمر الذي لم يؤت أكله أميركياً، ما يعني إخفاق تحقيق المبتغى من العقوبات المفروضة على إيران.
2- استطاعت إيران، ومنذ فرض العقوبات الأميركية عليها، الالتفاف عليها بطرق عدة، ونجحت في ذلك، وستنجح اليوم أيضاً، الأمر الذي سيحرم أميركا من تحقيق مآربها في تطويع إيران.
3- لا تريد إيران إعطاء أميركا وإسرائيل أي مبرر للقيام بعمل عسكري حتى استنفاد كل الوسائل الممكنة، لأن سياسة إيران هي اعتماد النفس الطويل، ولأجل ذلك، فإن إيران لم تزل تراهن على دور أوروبي أكثر فعالية وإيجابية في التمرد على العقوبات الأميركية المفروضة عليها، تماشياً مع المصالح المشتركة بين إيران ودول الاتحاد الأوروبي.
حين يقول وزير الخارجية الأميركية مايك بامبيو إن أميركا سترفع من وتيرة العقوبات الضاغطة على إيران حتى يأتوا إلى طاولة المفاوضات، فإن ذلك التصريح يقودنا للاستنتاج بأن هدف أميركا هو السعي إلى إجراء مفاوضات مع إيران، لكن بشروط أميركية تؤدي إلى تطويع إيران وليس شن الحرب عليها.
ماذا تريد أميركا من إيران؟
1- الولايات المتحدة الأميركية تريد الحفاظ على نفوذها في المنطقة عبر ضمان تنفيذ صفقة القرن الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية برمتها، وإن بروز عقبات من شأنها تعطيل تنفيذ صفقة القرن أمر مرفوض أميركياً وإسرائيلياً وحتى من عرب الخليج، ولهذا اختارت أميركا اللجوء إلى الضغط عبر العصب المؤلم وهو تجفيف الإمكانات المالية لكل دول محور الممانعة لصفقة القرن بهدف تقليص نفوذها في المنطقة وفي طليعتها إيران الداعمة لمحور المقاومة تمهيداً لتطويعها أو تركيعها ثم مساومتها للقبول بصفقة القرن لمصلحة العدو الإسرائيلي.
2- إضافة إلى ما تقدم فإن أميركا بانسحابها من الاتفاق النووي مع إيران وبحصارها الاقتصادي الخانق هدفت إلى إعادة صياغة الاتفاق بشكل يمنحها فرصة المساومة على قضايا المنطقة منها فلسطين، ثم إلى الاستيلاء على حصة وازنة من مقدرات بيع النفط الإيراني ضماناً لاستمرار نفوذها السياسي والاقتصادي استتباعاً لما هو حاصل مع دول الخليج العربي. لكن صمود دول الممانعة كـإيران وسورية بوجه سياسات وأطماع أميركا جعل من الولايات المتحدة أشبه بعصابة الكاوبوي تمارس الإرهاب على الشعوب والدول الممانعة عبر تنفيذ فرض العقوبات الخانقة على تلك البلدان لتطويعها ثم لجعلها بلداناً تابعة لسياسات أميركا وإسرائيل بالتمهيد للتطبيع مع العدو أو بالترهيب بتجويع الشعوب واستطراداً مصادرة القرار السيادي للدول الممانعة.
إننا لا نرى حرباً أميركية على إيران، بيد أن أميركا تمارس إرهاباً اقتصادياً وسياسياً غير مسبوق، للنيل من عزيمة محور المقاومة، وتقليص الدور الفاعل والممانع لتنفيذ صفقة القرن وتصفية القضية الفلسطينية، هذا ما تريده أميركا وإسرائيل، لكن هذا لن يحصل، لأن الصمود مهما بلغت التضحيات هو عنوان المرحلة، وسيكون الراعي الرسمي لأفول الزمن الأميركي.