تجهد الولايات المتحدة منذ أن اتخذ رئيسها دونالد ترامب في التاسع عشر من كانون الأول الماضي قراراً بالانسحاب العسكري من سورية لتفعيل حراك سياسي ودبلوماسي وأمني في آن واحد من المقدر له أن يكون شديد الأثر في مسارات الأزمة السورية وعلى كل الصعد، إلا أن ذاك الحراك بدا لاهباً مطلع هذا الشهر.
شهد منتصف أيار الماضي زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو لسوتشي التي التقى فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقد ذكرت وكالات منها «رويترز» أن بومبيو تقدم بخطة تضمنت ثماني نقاط لحل الأزمة السورية يأتي في مقدمها تنفيذ القرار الأممي 2254 واحتواء إيران في سورية ولبنان وعودة اللاجئين السوريين، كان الرد الروسي المعلن على تلك الخطة هو أن موسكو تتفهم جيداً دوافع بنودها وضروراتها لكن مع تسجيل اعتراض على التسلسل في التنفيذ وبمعنى آخر أيها يجب أن يتقدم على الآخر، ومن الواضح عبر السلوكيات الأميركية اللاحقة أن هذا الاعتراض قد نظرت إليه واشنطن على أنه ناسف للخطة برمتها أو هو يفوق الرفض من حيث النتيجة، وفي الأمر ما يدعو إليه فالقبول الكلي هنا مع الاختلاف على تسلسل الخطوات عنى تكتيكاً أرادت موسكو من خلاله تمرير أولوياتها التي تتفق في كثير منها مع حليفتها دمشق.
ثلاثة اجتماعات مهمة بالنسبة للسوريين، بدأ أولها أمس الاثنين في القدس الغربية التي شهدت لقاء مستشاري الأمن القومي لكل من روسيا والولايات المتحدة وإسرائيل، كما استضافت باريس أمس أيضاً اجتماعاً لممثلي المجموعة المصغرة الخاصة بسورية التي تضم إلى جانب فرنسا كلا من الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية ومصر والأردن، واليوم يعقد كبار الموظفين في التحالف الدولي لمحاربة داعش اجتماعاً لهم في باريس أيضاً، ناهيك عن اجتماع لحلف شمال الأطلسي يعقد في بروكسل في 28 حزيران الجاري وهو يعرض أيضاً للملف السوري، كما أعلن.
من المقرر أن الاجتماع الأول، أي اجتماع القدس للمستشارين، سوف يناقش خطة بومبيو ذات البنود الثمانية سابقة الذكر، واللافت كان في تسريبات كانت قد نشرتها وكالات أنباء عالمية عن توصل الروس والأميركيين لصفقة بخصوص سورية عشية اجتماع القدس، وهو ما نفاه الرئيس الروسي الذي أجاب في رد على سؤال بهذا المعنى يوم 19 حزيران فقال: «روسيا لا تتاجر بمبادئها وحلفائها» وهو رد قوي يذكر بردود المرحلة السوفييتية التي كانت تضع التحالفات في سقوف هي الأعلى في مقابل المصالح، وزاد بوتين في ما رمى إليه عبر رده القوي السابق بأنه أرسل مبعوثه الخاص الكسندر لافرنتييف إلى دمشق للقاء الرئيس بشار الأسد يوم الجمعة الماضي أي في اليوم التالي للتصريح السابق الذكر، وفي اليوم نفسه كان مستشار الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف يلتقي بنظيره الإيراني علي شمخاني في عاصمة باشكورتستان الفيدرالية الروسية فيما البيان الصادر عن الاجتماع قال: إنه جاء لتنسيق المواقف بين طهران وموسكو قبيل اجتماع القدس وقد تلاه تصريح لباتروشيف قال فيه: إن موسكو ستنقل نتائج هذا الاجتماع إلى طهران بوصفها الشريك الإستراتيجي لروسيا في المنطقة، واللافت هنا هو ما يحمله الحدث الأخير، إضافة إلى الحدث السابق، من التأكيد على أسبقية التحالفات على تقاطعات المصالح الظرفية، وتلك لهجة عالية غير مسبوقة في السياسة الروسية منذ عام 1991، وربما تبدو فريدة حالياً في السياسات العالمية التي غلبت عليها براغماتية مفرطة غابت فيها، أو ضعفت على الأقل، تأثيرات الإستراتيجيات الكبرى التي تبنى عادة بفعل عوامل الجيوبولتيك والتاريخ والثقافة.
اجتماع المجموعة المصغرة بالتزامن مع اجتماع القدس الذي قد يحضره كل من المبعوث الأممي غير بيدرسون ورئيس هيئة التفاوض نصر الحريري إضافة إلى المبعوث الأميركي الخاص بالأزمة السورية جيمس جيفري، سيبحث في مصير إدلب وجهود العملية السياسية بما فيها «عقدة» الأسماء الستة في القائمة الثالثة للجنة الدستورية، إلا أن هدفه الأساس بعيد عما هو معلن وهو سيكون محاولة للضغط على موسكو في القدس، والهدف عينه سيكون في مرامي هدف اجتماع باريس الثاني الخاص بالتحالف الدولي لمحاربة داعش الذي سيبحث في مستقبل شرق الفرات السوري وغرب العراق.
هذا التحشيد السياسي الغربي يلحظ ثبات الموقف الروسي في ملف إدلب فتبادل الإحراج الذي أظهرته تصريحات موسكو بعيد الإعلان عن وقف إطلاق النار في إدلب بالتوافق مع أنقرة في 12 حزيران الجاري والذي سارعت أنقرة إلى نفيه بعد أقل من 24 ساعة يرصد تحولاً جديداً في الموقف الروسي فيما يخص معركة إدلب، وفيه تعمل موسكو على الفصل بين هذي الأخيرة وبين «الإغراء» التركي الذي ما انفك يمني الروس بسيل من التصريحات التي تؤكد إتمام صفقة صورايخ الـ«إس 400» الروسية مهما بلغت التهديدات الأميركية وأكلافها الباهظة، وهو ما يمكن تلمسه في التقارير التي تشير إلى وصول تعزيزات عسكرية روسية إلى ميناء طرطوس وقاعدة حميميم في أعقاب إعلان موسكو لوقف إطلاق النار، وبعد يومين من هذا الحدث الأخير كان الرئيس الروسي يعلن أن لروسيا أولويات في سورية إحداها القضاء على الإرهابيين في إدلب.
في سياق متصل تسعى موسكو إلى بث الروح في مسار أستانا الذي عانى من وهن سابق على خلفية حالة التشاد الروسي التركي والتصعيد الأميركي الحاصل تجاه إيران من جهة، ومحاولات الغرب لإنعاش مسار جنيف على حساب أستانا مما يرمي إليه حراك واشنطن الحثيث الذي ترصده الاجتماعات الأربعة سابقة الذكر، واللافت أن موسكو سعت في خلال الأيام القليلة الماضية إلى توسعة «بيكار» أستانا عبر دعوة لبنان والعراق لحضور الجولة المقبلة من هذا الأخير المقرر عقدها شهر تموز المقبل، هذه التوسعة تبدي حرصاً على تسجيل حضور عربي لكسر المحاولة الأميركية والغربية عموماً في إظهار حالة من الإجماع العربي الحاشد ضد الوجود الإيراني في سورية مما سيكون شديد التأثير على مسار الأزمة السورية بشقيها السياسي والعسكري.
أمر آخر يثير القلق يتمثل في محاولات سعودية سجلت مؤخراً زيارة وزير الدولة السعودي ثامر السبهان إلى الجزيرة السورية مع إسداء وعود بتقديم مساعدات للشرق السوري، وأخرى أوروبية سجلت في الفترة الماضية زيارة العديد من الوفود البلجيكية والهولندية وهي تصب في الاتجاه نفسه، وكلها تهدف إلى خلق حالة تمايز على العديد من المستويات بين شرق البلاد وبين جهاتها الثلاث الأخرى، وما يثير القلق أكثر هو الموقف الروسي الذي يبدو غامضا في هذا الاتجاه وهو يرخي بظلاله الثقيلة على الجيوسياسية السورية.