خلال مؤتمرهِ الصحفي في ختام الجولة الثالثة عشرة من محادثاتِ أستانا حول تسوية الأزمة في سورية، قال رئيس الوفد السوري السفير بشار الجعفري: إن البيان الختامي لهذهِ الجولة هو الأفضل لسورية من ناحيةِ مضمونه السياسي ومقاربتهِ للوضع فيها.
ربما قد يبدو للبعض أن هذا الكلام دبلوماسي أكثَرَ منه واقعياً، لكن هذهِ الفرضية قد تبدو صادقة لو لم يكن المتحدّث هو بشار الجعفري الذي اعتدنا عليهِ الواقعية في توصيف الأمور ووضعها في مسارها الصحيح، فهل هذه الجولة حملَت فعلياً ما هو جديد في سياقِ الوصول إلى تفاهماتٍ كانت بادرتها الأولى إعلان وقف لإطلاق النار في ريف إدلب شرط التزام الإرهابيين ومن خلفهم النظام التركي بمقررات «سوتشي»، أم إن ظروف فرض تسوية كاملة لم تنضج بعد؟
قد لا نبالِغ إن قلنا إن خبرَ إعلان الهدنة في مناطق خفض التصعيد «بشرط» البدء بتطبيق اتفاق سوتشي الذي يقضي بانسحاب العصابات الإرهابية بعمق 20 كيلو متراً، قد لا يشبههُ إلا خبرَ إعلان الولايات المتحدة نبأ مقتل «حمزة بن لادن» نجل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، فكلا الخبرين يتقاطع بفرضياتٍ عدة أهمها: تكرار لسيناريوهات سابقة عفا عنها الدهر، فمصداقية التزام النظام التركي بالضغط على العصابات الإرهابية للانسحاب بعمق 20 كيلو متراً وسحب سلاحهم الثقيل والمتوسط، قد لا يشبهُ إلا مصداقية الولايات المتحدة في الحرب على تنظيم القاعدة والشفافية بنشر سيناريوهات تصفية زعمائه، أما مصداقية النظام التركي بالالتزام بفصلِ المعارضة الإرهابية عن المعتدلة، إن وجدت، فلا يشبههُ إلا كذبةَ تعاطي الأميركيين مع تنظيم القاعدة كتنظيمٍ إرهابي فيما يتعاطون مع الذين بايعوهُ في سورية كجزءٍ لا يتجزأ من مستقبلِ سورية السياسي، ألم تكن الولايات المتحدة حتى الآن تسعى جاهدةً إلى سحب تصنيف تنظيم النصرة المبايع لتنظيم القاعدة كتنظيمٍ إرهابي، ألا يزور الإرهابي أبو محمد الجولاني الأراضي القطرية والتركية كما تزور الوفود الخليجية المطبعة مع العدو الصهيوني فلسطين المحتلة؟
في سياقٍ آخر قد نعترف أن البيان الختامي للمباحثات كان فيه الكثير من اللهجة السياسية القوية الداعمة للموقف الرسمي السوري، إن كان لجهةِ تأكيد القضاء على الإرهاب بما في ذلك الحديث عن الوضع الحالي غير المقبول الذي وصلت إليه سطوة التنظيمات الإرهابية في إدلب، أو إعادةَ التأكيد على وحدة وسيادة الأرض السورية أو لجهة الحل السوري السوري بعيداً عن أي تأثيرٍ خارجي ينزع ليكون طرفاً لا وسيطاً. لكن بعيداً عن المثاليات والكلام الدبلوماسي المعسول فإن كل من سوتشي وأستانا كانا ولا يزالان يعانيان من عدةِ مطبات، فمثلاً حتى الآن تبدو مشكلة مسلسل «أستانا» أنه عملياً لا يحظى بذاك الغطاء الدولي اللازم لإنتاجِ تسوية أو إحرازِ تقدم، بالتالي إن أي وعودٍ والتزامات تبدو عملياً استمراراً لمسلسل كسب الوقت الذي يتقنهُ التركي تحديداً بما يتعلق بآلية تشكيل اللجنة الدستورية وتوزيعَ نسب التصويت فيها، إضافة إلى ذلك تبدو مشكلة عدم اعتراف الولايات المتحدة ومن خلفها الاتحاد الأوربي ولو بالحدِّ الأدنى بما ينتج عن هذهِ الاجتماعات جديرة بأن تؤخذ بالحسبان، ولو كانت هكذا فعلياً لشعرنا بالنتائج على الأرض إلا إن كنا نصدق بأن النظام التركي هو من يقرِّر فعلياً، لتبدو عملية تبديل النظام التركي لسلوكه التزاماً بتعهداته لا تقدِّم ولا تؤخر لأنه ليس من يقرر.
في واقع الأمر لا يبدو أن النظام التركي اليوم قادر على الانعطاف في الملف السوري بطريقةٍ تضمن لهُ الاستقلالية في اتخاذ القرار إن كان لجهةِ الانسحاب المدروس لحساب تعويم الحل السياسي، أو رفع اليد عن التنظيمات الإرهابية بما فيها تلك التي تغرّد خارج إرهاب جبهة النصرة والتي لا تقل إجراماً عنها.
حتى من يثقونَ بالنظام التركي وبعضهم يتحالف معه على السرّاء والضرّاء ما زالوا يستثمرون بأي حدثٍ على أنه بداية لهذهِ الانعطافة وبعضهم يتجاوز هذا الاستثمار بالترويج للمجرم رجب طيب أردوغان على أنه أفضل من غيرهِ، هناك مثلاً من يرى في تصاعدِ التحريض ضد السوريين كسياسةٍ تركية تهدف إلى البدءِ بالتخلصِ من هذه الورطة، لكن الأمنيات شيء والواقع شيء آخر، فمن يدَّعي الحفاظ على وحدة الأراضي السورية ما زال في مفاوضاتٍ مع الأميركيين من أجل إقامةِ منطقةٍ آمنة في الشمال السوري يستعيد بها هيبة الدولة العثمانية واللافت أن الخلاف اليوم ليس على مبدأ إقامة المنطقة والوظيفة الجيوسياسية التي ستستخدم لأجلها لكن الخلاف على عمقها، ليصبح السؤال المنطقي: ترى ماذا سيكون رد فعل حلفاء أردوغان أو من ما زالوا ينظرون إليه كجزء من الحل لو تم التوصل لاتفاقٍ على هذهِ المنطقة؟
كذلك الأمر فإن من يدّعي الحفاظَ على الأرض السورية كان ولا يزال يمعنُ في تتريكِ المنطقة الشمالية لريف حلب لدرجةٍ باتت فيها هذه المنطقة ناطقاً رسمياً بالتركية، وجميع معالمها سمّيت بأسماءِ مجرمي الدولة العثمانية، ما يعني أن التركي واضح بأهدافهِ ومراميه فماذا ينتظرنا؟
غالباً ما يتم توظيف الكلام الدبلوماسي خلال الأزمات من أجل رفع مستوى التفاؤل بالحلول، لكن في الحالة السورية نبدو عملياً أننا أمامَ حالةٍ مركبةٍ من التعقيدات يبدو فيها الكلام الدبلوماسي في العلن آخرَ ما يستحق الاهتمام، فالإفراط في التفاؤل سيؤدي إلى نتائجَ لا تُحمد عُقباها تحديداً أن النظام التركي واضح وصريح إن كان لجهةِ الأهداف المباشرة وغير المباشرة لبقائهِ في الشمال السوري، أو لجهة الضغط حتى الابتزاز في الموضوع الكردي وإن كان قد نجح جزئياً فيما يتعلق بفرض نفسهِ كلاعبٍ في مسلسل الحل السوري إلا أنه ما زال بعيداً عن القدرة على الكسب في الملف الكردي الانفصالي، لأن هذا الملف يبدو بعيداً كل البعد عن التنازل الأميركي عنه في القريب العاجل، أي إن انتظار التزام تركي بالحل السياسي في سورية هو أشبهَ بمن ينتظر الأميركي ليكشفَ الخفايا الأساسية لنشوء تنظيم القاعدة، دون أن ننسى ثابتةً مهمّة أن ما يفرِّق بين الروسي والتركي أكثر مما يجمع وقد بدا ذلك واضحاً في الحديث الصحفي للمبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سورية، ألكسندر لافرنتييف عندَ سؤالهِ عن المنطقة العازلة إذ قال: «نرفض أي وجود لعناصرَ عسكريين أتراك وعناصر من المعارضة السورية، ونرفض حتى مقترحات تسيير دوريات تركية في تلك المنطقة، ووحدات الجيش السوري جاهزة الآن وقادرة على فرض الأمن وتأمين الحدود»، كلام يُعتد بهِ لأنهُ بالنهاية قد يبدو ناجماً عن أحد احتمالين، إما تفاهمات روسية أميركية أو اقتناع تركي بوجهة النظر الروسية بعيداً عن الأضواء، لكن في واقع الأمر قد يبدو هذا الكلام ناتجاً عن احتمالٍ ثالث: هل ضاقَ الروس ذرعاً بوعود النظام التركي؟ ربما ليس الروس فحسب، هل كان عن عبثٍ تحديد لافرينتيف ذات نفسه أن من بين الإرهابيين في إدلب هناك ألفين وخمسمئة من الإيغور الصينيين؟