تمكن الإنسان من إيصال المياه اللازمة لكل بيت في مدينة دمشق، ولكل مرفق من مرافقها العامة، كالمساجد والحمامات والسبلان.
كما أن هذا الإنسان لم يأل جهداً لإيصال المياه لكل ذرة تراب من أراضي غوطة دمشق، حيث جعل المياه عبر طرق ومسارب تحار العين في اجتماعها وافتراقها، حتى لكأن كل نقطة ماء مرصودة لري ذرة تراب وفق عدانات متوارثة، ووفق أعراف وتقاليد لا يمكن الخروج عليها.
وهكذا فإن قنوات تورا والداعياني والعقرباني والديراني بل قناة بانياس المتفرعة عن نهر بردى توصل المياه إلى كل ذرة تراب بالغوطة.
فمياه قناة تورا تتوزع بأراضي جوبر وزملكا وحزة ومديرة ومسرابا وحرستا ودوما.
ومياه قناة الداعياني تتوزع بأراضي عين ترما وكفر بطنا وجسرين وسقبا وحمورية.
كما أن مياه هذه القناة تصل إلى أراضي جرمانا والمليحة وبيت سحم وعقربا بل زبدين ودير مجدل.
كما أن مياه الداراني تروي أراضي داريا وكفر سوسة والمزة والقدم.
أما مياه قناة بانياس فتصل إلى ببيلا ويلدا والسيدة زينب وحجيرة والبويضة.
وهذا كله ساعد على جعل الغوطة تقدم للإنسان ما تطرحه أرضها من ثمار أشجارها التي ينعم بها الإنسان وخاصة المشمش والإجاص والدراق، وأيضاً الزيتون والجوز، على تعدد أنواعها، حتى إن المرء يكاد يحار أي من هذه الثمار ألذ طعماً.
ونذكر على سبيل المثال أن الدالية أو شجرة العنب تطرح ما كان من العنف الأسود الرومي والأبيض الزيني والبلدي، وكذلك العنب الحلواني والديراني، أما العنب الأحمر فقد اشتهرت به أراضي مدينة دوما.
كما كنا نجد للزيتون أنواعاً منها ما يعرف بالجلط والدان والمصعبي والتفاحي والاستنبولي والحبلاس، وأيضاً المعطون.
ونجد من المشمش ما يمكن أن منه ما يعرف بالمشمش البلدي واللوزي والماوردي والحموي والتدمري وأيضاً المشمش الشحمي.
وهذا كله إن دل على شيء، فإنما يدل بالدرجة الأولى على امتداد أراضي الغوطة واتساعها، قبل أن يعمد الإنسان إلى اغتيال أراضي الغوطة، ويضم على مساحاتها الزراعية المصانع وورشات الحدادة والدور، حتى إن من الممكن الإشارة إلى ما ذكره ابن شداد بالقرن الثالث عشر للميلاد من أن أراضي الغوطة في أيامه تضم خمسة آلاف وثلاثمئة وخمسين بستاناً، وعلى خمسمئة وخمسين كرماً، وكان من أراضي الغوطة ما ينفرد بزراعات ومحاصيل اشتهرت بها، فالبطاطا ليبرود والثوم للكسوة والفول لأراضي كفر سوسة والخس لأراضي اللوان والعنب الأحمر لبلدة دوما وكان لكل نوع من أنواع المشمش أراض تنفرد أو تشتهر بزراعته.
وذكر ابن طولون الصالحي أنه كان بأراضي الغوطة نحو من سبعين قرية، ومن هذه القرى ما كان على أبواب مدينة دمشق للإسهام بتموين هذه المدينة بالخضار الطازجة، وقد عرف أصحاب أراضي الغوطة بالصبر والمجالدة في استثمار أراضيهم، من زراعة وقطاف وتسويق، فالفلاح بالغوطة يستثمر أرضه بيده بعدة أساليب ليكفل طعامه وطعام عياله.
ومن هذه الأساليب ما كان يعرف بأسلوب البستنة أو بأسلوب الدورة الزراعية، وقد يعمد إلى أسلوب المرابعة أو الضمان بالاعتماد على الغير في استثمار هذه الأراضي.
ويعتمد أسلوب البستنة على تقسيم الأرض إلى مساكب أو مساحات صغيرة ثم يزرع بهذه المساكب ما يدر عليه من قطاف يومي على مدى أيام الحول.
أما أسلوب الدورة الزراعية، فيقوم على زراعة مساحات من الأرض واسعة، تتنوع بين فصل وآخر من فصول السنة حفاظاً على خصب الأرض.
وقد يعمد صاحب الأرض الزراعية إلى الاعتماد على إنسان آخر ليقوم على استثمار الأرض أو جانب منها لقاء حصوله على ربع محصول أرضه الذي يجنيه المستثمر أو قيمة ذلك نقداً وهذا ما عرف بأسلوب المرابعة.
وقد يعمد صاحب الأرض إلى بيع محصول من محاصيل أرضه لقاء مبلغ من المال وهذا ما يعرف بأسلوب الضمان.