توحي التغطية الإعلامية للمواجهة المستمرة بين الجماعات المسلحة والقوات الحكومية السورية على حدود الجيب الأخير الذي تسيطر عليه تلك الجماعات المتطرفة في محافظة إدلب وما حولها، بأن الأمور لا تزال تراوح مكانها من دون تغيير جذري منذ نحو العام عندما طار رئيس النظام التركي رجب أردوغان إلى منتجع سوتشي الروسي، ونجح بعقد اتفاق مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تعهد من خلاله بإخلاء المحافظة السورية من التنظيمات المتربطة بتنظيم القاعدة، وبإقامة منطقة منزوعة السلاح فيها، تمهيداً لحل سياسي يحافظ على وحدة الأراضي السورية، وذلك مقابل تأجيل عملية عسكرية كبرى كانت القوات السورية والحلفاء على وشك البدء بها لتحرير المنطقة بمشاركة روسية، منذ أيام تم الإعلان عن هدنة جديدة ببنودٍ مشابهة، وكأن شيئاً لم يتغير، لكن هل خلت الأشهر الأخيرة حقاً من أي تغيير جوهري فيما يخص هذا الملف؟ وهل صحيح أن روسيا مستعدة لتقبل الدلال والمراوغة التركية بلا حدود؟
في الواقع شهدت المواجهات الميدانية خلال الأشهر الأربعة الأخيرة تغييرات لم يعطها الإعلام حقها من التغطية، فبعد امتناع روسيا لأشهر عن المشاركة بأي عمل جوي داعم لعمليات الجيش العربي السوري على جبهة إدلب، التزاماً منها بإعطاء مهلة للجانب التركي لتنفيذ التزاماته على قاعدة ما اتفق عليه في أستانة وسوتشي، تم منذ نيسان الماضي تسجيل مشاركة المقاتلات الجوية الروسية إلى جانب الطيران الحربي السوري في قصف النقاط الإستراتيجية للجماعات المسلحة في عمق محافظة إدلب وعلى طول خطوط التماس.
ثم تزايد حجم الجهد الجوي الروسي بالتدريج، تزامناً مع ما أثبتته الوقائع في الميدان من مراوغةٍ تركية، ورهانٍ على أن ساعة الحسم الروسية ضد الجماعات المسلحة في إدلب لم تدق بعد، حتى صار العمل الجوي الروسي العمود الفقري للعمليات الجوية التي شنت على نقاط تمركز وخطوط إمداد الجماعات الإرهابية ومخازن ذخيرتها في كامل المنطقة التي لا تزال تسيطر عليها شمال غرب سورية.
وما إن تم استهلاك كامل بنك الأهداف التي يمكن أن يطولها العمل الجوي، حتى بدأت العملية البرية بالهجوم على الخط الدفاعي الأول الذي نظمته التنظيمات المتطرفة في منطقة ريف حماة الشمالي وذلك في مطلع أيار الماضي، حيث لم تر القيادة السورية حاجة لطلب دعم الحلفاء للعمل البري كما صرح بذلك الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر اللـه في مقابلته الأخيرة على قناة المنار، وتم خلال المرحلة الأولى من العملية البرية تحرير عدد من المواقع الإستراتيجية المهمة من سيطرة المسلحين أهمها بلدة كفر نبودة.
ثم دخلت المواجهة البرية مرحلة جديدة مع الهجوم المضاد الذي شنته قوة من نحو ستة آلاف إرهابي ينتمون لخمسة من التنظيمات المسلحة على المواقع التي حررها الجيش السوري منتصف شهر أيار الماضي، وحسب إجماع الخبراء بالتنظيمات الموجودة في إدلب وبالصراعات المتأججة بينها، فإن اجتماع الفصائل الخمسة تلك في جبهة واحدة، ما كان ليكون لولا قرار تركي بجمعها، حيث قدمت تركيا ووفق اعترافات مصادر المعارضة السورية نفسها دعماً تسليحياً ولوجستياً ومخابراتياً غير محدود للهجوم المضاد، بل إن الهجوم المضاد يذكر بما جرى خلال معركة تحرير حلب، عندما تدفقت 1500 مدرعة وعربة مسلحة من الحدود التركية لدعم الجماعات التي تقاتل لفك حصار الجيش العربي السوري عن التنظيمات المتمركزة في أحياء حلب الشرقية، فكانت معركة الكليات الشهيرة عام 2016.
بالمجمل أدى الهجوم المضاد على جبهة ريف حماة الشمالي لاستعادة المسلحين المدعومين من تركيا لبعض المواقع التي خسروها ومنها بلدة كفرنبودة لكن مؤقتاً، فما لبث الجيش السوري أن استوعب الهجمات المضادة ومن ثم قام بهجومه المعاكس الذي نجح خلاله في استعادة كل المناطق التي خسرها وآخرها تل ملح، بل بتدعيم مواقعه الأمامية عبر تحرير تلال ونقاط إستراتيجية جديدة، لكن أهم ما أسفرت عنه المواجهة الأخيرة إبادة مئات من الإرهابيين الذين يشكلون الجزء الأهم من القوة الضاربة للتنظيمات المسلحة شمال غرب سورية، وهنا نقطة تشابه أخرى بمعركة الكليات شرق حلب، التي أدى إخفاق الهجوم المضاد الذي شنته الجماعات المتطرفة خلالها إلى فقدانها لقدراتها الهجومية، وانكفائها، ما مهد لتشديد الحصار على نظيراتها في أحياء حلب الشرقية والبدء بقضمها، وعزلها عن بعضها، وانتهى الأمر بعد ذلك بتحريرها.
لقد أدى إخفاق الهجوم المضاد الأخير لائتلاف التنظيمات المتطرفة الذي شكلته تركيا في ريف حماة الشمالي، إلى خسارة تلك التنظيمات لقوتها الضاربة، ولخط دفاعها الأمامي، الذي يفترض وفقاً للعلم العسكري أنه الأصلب والأقوى، وهذا ما يفسر مسارعة الجانب التركي للعودة لالتزامات سوتشي وأستانا، والتعهد بإخلاء منطقة 20 كلم من التنظيمات المسلحة، تمهيداً لفتح طريقي حلب حماة، وحلب اللاذقية، كما أنه يفسر أنباء التقدم الواردة من كواليس التفاوض على اللجنة الدستورية، حيث تصر الدولة السورية على ضمان نسبة الأكثرية من مقاعدها، بالتالي لا يمكن تصور حدوث أي تقدم في تلك المفاوضات من دون ضغوط تركية على أطراف المعارضة، أملتها على تركيا تطورات الميدان العسكرية.
لا شك أن معركة إدلب تختلف عن المعارك السابقة على الساحة السورية، سواء بسبب تحول المنطقة إلى الملاذ الأخير لكل الإرهابيين الذين تم إخلاؤهم من بقية المناطق السورية، أم بسبب ما يكتنفها من تعقيدات إقليمية، تتعلق بحاجة حلفاء سورية من روسيا وإيران، لمراعاة حسابات تركيا التي تبدو في حالة إعادة تشكل، وبصدد تموضع جديد على خطوط التوازنات الدولية، على وقع انهيار مشروعها الإمبراطوري، وسقوط خيارات أردوغان الإستراتيجية لجهة العلاقة مع الغرب، ومن ثم انتقال الصراع إلى الداخل التركي، مع تراجع الوضع الاقتصادي وصعود القوى المعارضة لأردوغان حتى داخل حزب العدالة والتنمية.
لذلك ترى كل من روسيا وإيران أن من مصلحتهما منع الولايات المتحدة من تكرار ما اعتادته خلال التاريخ التركي الحديث، من الإتيان بإخواني إلى سدة الحكم ثم استبداله، بعد انتهاء صلاحية استخدامه، بانقلاب عسكري أو حكومة علمانية مرتبطة بها، فمن قادة انقلاب 2016 العسكريين إلى معارضي أردوغان داخل حزب العدالة والتنمية أمثال داوود أوغلو وعلي باباجان، يبدو كل بدلاء أردوغان المحتملين أسوأ منه، لجهة علاقة التبعية لواشنطن.
هذا قد يدفع جبهة حلفاء سورية لإعطاء المهل لتركيا، لكنه لن يدفعها للتخلي عن مساعدة سورية في تطهير الجيب الأخير الذي لا تزال تحتله الجماعات المتطرفة المرتبطة بأجهزة الاستخبارات الغربية، وهو الجيب الذي يهدد بقاؤه كل الإنجازات والانتصارات المتحققة على الساحة السورية، وهي الانتصارات التي أعادت لروسيا مكانتها الدولية، وحافظت على محور المقاومة، وعززت مكانته الإقليمية.