قرصنة بريطانيا في مضيق «جبل طارق» واحتجازها لناقلة النفط الإيرانية التي كانت تحمل نفطاً إلى «بانياس» السورية بذريعة مخالفتها لعقوبات الاتحاد الأوروبي، ومن ثمَ الردّ الإيراني السريع باحتجازه لناقلة نفط بريطانية بسبب مخالفتها أنظمة الملاحة البحرية في مضيق هرمز، قد وضع العالم أمام أسئلة صعبة؛ وفي مقدمتها السؤال عن إمكانية اندلاع حرب في المنطقة؟ فهناك كلام كثير عن الاحتمال الكبير لاندلاع مثل هذه الحرب إرادياً أو لا إرادياً، ما شكّل موقفين من هذه الحرب المفترضة.
فئة من الأشخاص والحكومات والدول تنتظر بفارغ الصبر وتتمنى أن تندلع الحرب لأن هذه الفئة تتصور أو تتخيل بأن الحرب ستقضي على الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتنهي كابوسهم المتمثّل في هذا النظام، وهؤلاء معروفون لا لزوم لتسميتهم، وهناك فئة ثانية تخاف اندلاع الحرب حرصاً على سلامة وبقاء الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لأنهم يوقنون أنه في حالة اشتعال الحرب ستتشكَل جبهة دولية قوية واسعة ضد إيران قد لا تقوى وحلفاؤها على مجابهتها وتنتهي الحرب بالقضاء عليها أو بالدمار الشامل فيها، حيث لا يمكن لإيران النهوض مجدداً لسنوات مديدة.
أقول للفريقين لا تنتظروا فرحاً أو خوفاً من الحرب، لأن إسقاط الطائرة الأميركية من قبل قوة الدفاع الجوي لحرس الثورة الإسلامية شطب الحرب من قائمة الخيارات المتاحة للقوى الاستكبارية في مواجهة إيران، لأن هذه الطائرة الأميركية هي أكثر الطائرات المسيَرة تطوراً وتجهيزاً وأحدثها وأغلاها في العالم، لم يكن حدثاً عابراً بل حمل رسالة إلى الأصدقاء والأعداء عما يمكن لإيران أن تقوم به، وقدّم موجزاً عن التطور والتقدم العلمي والمعرفي والتقني في إيران رغم الحصار، وما تملكه من أجهزة دفاعية متطورة مجهولة لأعدائها ما يزيد من مخاطر تداعيات ونتائج الحرب لديهم.
إذن لمَ قامت بريطانيا بما قامت به؟!
نلحظ أنّ هناك شبه إجماع في الأوساط السياسية والإعلامية بأن بريطانيا فعلت فعلتها بطلب أميركي أو بالنيابة عن أميركا لغاية في نفس الرئيس دونالد ترامب، فأن تقوم بريطانيا بقرصنتها بعد إسقاط طائرة تجسس أميركية له دلالاته ويترتب عليه الكثير والمهم ما يقودنا إلى الربط بين الحادثتين؛ فإسقاط الطائرة الأميركية لم يكن مجرّد عملية عسكرية حدثت في لحظة وانتهت. تقنياً هذا الحادث يدلّ على تطور إيران في حقل تقنيات معقدة إلى مستويات كانت غير متوقعة ومازالت تجهله قوى الاستكبار، ولوجستياً أظهرت امتلاك إيران تجهيزات ومعدات عسكرية متطورة لم يكن يعلم عنها العدو شيئاً.
لذا يجب أن ندرك بأن عدم شراء إيران سلاحها من الخارج زاد من جهل الأعداء بما تملكه من معدّات وأسلحة وتجهيزات لا يمكنهم تقييم القوة العسكرية الدفاعية أو الهجومية لدى إيران، ومن الطبيعي أن يُصابوا بالذهول والمفاجأة، إجمالاً هذه الواقعة كانت بمنزلة حفل توقيع على ظهور قوة إقليمية عظيمة مستقلة سياسياً وقرارها بيدها، ليست ذيلاً أو تابعاً لأي من القوى العظمى.
لست بصدد إعطاء هذا الأمر أكبر من حجمه أو أكثر من أهميته، لكن؛ لا يمكن تغافل الأبعاد السياسية والعسكرية والأمنية له، فتخبط الأميركيين وعدم مقدرتهم على أخذ القرار بتحديد رد فعلهم مقابل إسقاط طائرتهم خير دليل على أن أبعاد وتداعيات هذا الحادث أكبر وأكثر من مجرد عملية عسكرية محدودة، من جانب آخر؛ إسقاط الطائرة الأميركية زاد من التأييد الشعبي لإيران ورفع من رصيدها بين الشعوب الغاضبة من الغطرسة الأميركية، ودعمها اللامحدود للكيان الصهيوني، وتعاملها المذلّ مع الزعماء ورؤساء الدول، ما أثار قلق الاستكبار من تشكيل قناعة لدى الشعوب أنه بإمكانها الخروج عن طاعة القوى العظمى، وهنا يكمن الدافع والسبب الرئيس للقرصنة البريطانية التي تهدف إلى كسر شوكة إيران وإذلالها وتوجيه رسالة إلى العالم وخاصة لمن فرحوا بإسقاط الطائرة الأميركية وشعروا بالعزة والكرامة مقابل التعامل الأميركي الهمجي والمذلّ خاصة مع دول المنطقة، بأنه لا يمكن لأي كان أن يخرج عن طاعتهم، إلا أنهم لم يوفقوا في اختيارهم طريقة إرسال هذه الرسالة وفي تصرفهم المبني على الجهل بإمكانيات إيران للرد، فانقلب السحر على الساحر، وزاد الطين بلة أن كان ردّ إيران على القرصنة البريطانية، بكل أبعاده العسكرية والسياسية والأمنية، جاء لتثبيتها كقوة إقليمية قوية طمأنت حلفاءها وأصدقاءها والشعوب التي علّقت الآمال على قوتها في المنطقة ومواقفها المشرفة.
للصديق والعدو، وبعيداً عن إطلاق الشعارات نقول: حادثة إسقاط الطائرة الأميركية هي بداية عصر جديد في موازين القوى في المنطقة، وردّ فعل إيران مقابل القرصنة البريطانية قد رسّخ هذه الموازنة الجديدة وأنهى زمن تفرَد الأجنبي وقوى الاستكبار في مقدراتنا وتقرير مصير بلداننا، فلا ينفعهم التهويل ولا التدويل ولا إرسال الأساطيل إلى المنطقة، فجبهة المقاومة بخير ومستقبل منطقتنا واعد.