من المؤكد أن إعلان تل أبيب عن إجراء تجربة جرت بمساعدة أميركية على منظومة «آرو 3» المضادة للصواريخ البالستية في آلاسكا أواخر تموز الماضي سوف يدخل في الحسابات التي تأخذها طهران بعين الاعتبار وهي تدير أزمتها الراهنة مع الولايات المتحدة في الخليج، على الرغم مما شاب تلك التجربة من شكوك فرضها اختيار المكان، فتل أبيب اعتادت إجراء مثل هذه التجارب في البحر المتوسط، ولذا فإن البعد هنا يهدف إلى إعلان نتائج يصعب التأكد منها ولربما من الصعب الحصول على تقديرات دقيقه حولها إلا بالاستعانة بوسائل الرقابة الروسية نصف المعطلة هنا في هذا السياق، أهمية الإعلان الإسرائيلي هو أنه جاء في أعقاب إعلان طهران عن اختبار ناجح لصاروخ بالستي في 24 تموز الماضي كان قد قطع مسافة ألف كيلو متر وأصاب هدفه بدقة تامة.
والتأكيد هنا يتأتى من أن موانع قيام الحرب وعدم اندلاعها على الرغم من تشعبها واشتداد تعقيداتها يأتي في مقدمها أمن الكيان الإسرائيلي الذي من المقدر له، فيما لو اندلعت، أن يكون صاحب الحظ الأوفر من الأذى الذي سيصعب التكهن بالمدى الذي سيلحق به مع آخرين كثر حرضوا أو مولوا أو قدموا الدعم الإسنادي لفعل كهذا، يبدو افتراضياً حتى الآن.
حتى هذه اللحظات وبالرغم من التطورات التي يشهدها الخليج والتي تكاد تكون لحظية، لا يبدو أن ثمة توافر كاف للوقود اللازم لإضرام الحريق بل ولا الحرارة اللازمة لإيصاله إلى درجة الاشتعال متوافرة أيضاً، فلا الاقتصاد الإيراني وصل إلى شفير الهاوية كما كان مخططاً له بل على العكس يبدو وكأنه استطاع استيعاب صدمة عقوبات 3 أيار المنصرم، وكذا الحكومة استطاعت فرض حالة من الاستقرار على سعر الصرف ومعها الاستقرار في السوق، ولا أسعار النفط قفزت إلى حدودها المخيفة للأميركيين في أعقاب احتدام حرب الناقلات التي كان آخرها إعلان الحرس الثوري الإيراني عن احتجاز ناقلة نفط أجنبية جديدة مقابل جزيرة «فارسي» في الخليج يوم الأحد الماضي، إذ الوجع لم يصل بعد إلى مواطن الأعصاب الحساسة التي يفترض الوصول إليها إجراء «الجراحة» أو اللجوء إلى «الكي»، فكلا الطرفين يبدو مجيداً للعبة السير فوق الأسلاك بواسطة عارضة التوازن ولا يشير أداء أي من المتبارين إلى احتمال سقوط أي منهما.
لا يبدو أن محاولات تل أبيب لإظهار نفسها وكأنها استعادت صورة القلعة الحصينة التي حاولت إظهارها عبر عقود، ومنظومة «آرو 3» تأتي في هذا السياق استكمالاً للقبة الحديدية المخصصة للتصدي للصواريخ قصيرة المدى، ولمنظومة «مقلاع داوود» المخصصة لإسقاط الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى والتي يبدو أنها تعاني من ثغرات كبرى استدعت تجارب «آرو 3» سابقة الذكر، لا يبدو أن هذا الفعل الإسرائيلي الذي يشبه ذر الرماد عن الجمر كاف للدفع بواشنطن إلى تغييرات في مساراتها التي اختطتها للتعاطي مع الأزمة الراهنة مع طهران، فزيارة وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي الأخيرة إلى إيران يبدو وكأنها حملت جديداً استدعى تمديدها 24 ساعة، ولربما كانت تحمل في ثناياها ما كشفته صحيفة «نيويوركر» بعد أيام على حدوثها عن دعوة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف لزيارة البيت الأبيض، والمؤكد أن مجرد التفكير بهذه الطريقة وأياً تكن نياتها والنتائج المرجوة منها فإن ذلك يمثل تحولاً جذرياً راسماً لتوجهات جديدة يستدعي أخذها بعين الاعتبار، وهو ما بدأ يتمظهر عبر العديد من المؤشرات بدءاً بالتموضع الإماراتي الجديد تجاه إيران ووصولاً إلى علو أصوات أخرى في الخليج تمتلك رؤى مغايرة عن تلك التي تدفع نحو علو أصوات المدافع فوق أي صوت.
الأزمة الأميركية الراهنة مع إيران ستفضي سواء انتهت حرباً أم سلماً إلى رسو معادلات جديدة في منطقتي الخليج والشرق الأوسط برمته، وفي سياقها ستكون هناك توازنات جديدة خالة بالتوازنات القديمة وهي راسمة لواقع جديد، وخطاب وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف ذي اللكنة غير المعهودة يوم الإثنين الماضي مؤشر مهم على منحى إيراني يريد القول: إن طهران ماضية في مقابلة التصعيد بالدرجة نفسها من التصعيد وفق حسابات تنطلق من أن مصير شعوب المنطقة مرتهن ببعضها البعض.
مسار الأزمة الراهنة في الخليج يشير إلى أن إيران ليست فوق بركان، وهذي الأخيرة تستمد أعتى عوامل قوتها من تجذرها على أرضها ودفاعها عن سيادتها ومصالحها، وهذا يكسب السياسات الإيرانية مشروعية هي غاية في الأهمية في إداراتها للصراع، وهي تقدم أيضاً درساً في العلاقات الدولية على درجة عالية من الأهمية أيضاً، تذود إيران عن سيادتها وتستجمع كل ما يمكن تجميعه للدفاع عن تجذرها كأمة عريقة ضاربة جذورها عميقاً في التاريخ فيدعى قادتها لزيارة البيت الأبيض الذي يمثل رمز السطوة الأميركية، وبينما يتهافت قادة وشيوخ دول أخرى على استرضاء واشنطن ودفع إتاوات مستحقة وهم إذ يفعلون يلقون شتى أنواع الإهانات التي شهدنا آخرها في استقبال أمير قطر في كراج سيارات إبان زيارته الأخيرة لواشنطن.
قد تكون أثقال الدول في المثالين السابقين مختلفة أو هي توحي بعدم صحة المقارنة إلا أن في الأمر شيئاً آخر، فمؤكد أن من مهام السياسة إيجاد بدائل واقع كهذا.