أعلم أن الجرح في الغربة ينزف أغزر، ويؤلم أكثر، ولهذا أرجأت الكتابة عن هذا الموضوع مراراً، لأنني لا أريد أن أنصب نفسي قاضياً على أي شخص من إخوتي السوريين، مهما كان سلوكه، إذ ترسخت لدي قناعة أن واجب الكاتب هو أن يفهم الناس وأن يعزز الفهم والتفاهم بينهم، لا أن يكتفي بتقييم أعمالهم والحكم على تصرفاتهم. وبسبب ما سبق أرجأت الكتابة عن هذا الموضوع أحد عشر شهراً بالتمام.
في اليوم التاسع من الشهر التاسع من العام الماضي، نشرت صحيفتنا «الوطن» لقاء مع المدير العام للهيئة العامة للطب الشرعي الدكتور زاهر حجو، أجراه الزميل محمد منار حميجو تحت عنوان « كبار السن يموتون بالجلطة لأن أولادهم هجروهم». والحق أن العنوان أشعل رأسي بقلق شديد، لأنني كنت قبل قراءة اللقاء قد سمعت أن رجلاً كبيراً في السن لم تكتشف وفاته إلا بعد أن تحللت جثته وبدأت رائحة تفسخه تزعج الجيران، فامرأته توفيت منذ سنوات، وبناته متزوجات في أحياء بعيدة عن بيته، وابنه الوحيد هاجر إلى ألمانيا!
يقول المدير العام للهيئة العامة للطب الشرعي الطبيب زاهر حجو: «إن مراكز الطب الشرعي في المحافظات تكشف يومياً على جثة لشخص كهل متقدم في العمر مات وحيداً في منزله ومضت على وفاته أيام، وإن الجثة لا تكتشف إلا بعد صعود الروائح منها، مؤكداً أن معظم الحالات نتيجة احتشاء العضلة القلبية. ويرى الدكتور حجو أن «الحالات النفسية لعبت دوراً في إصابة الكثير من المتوفين المتقدمين في العمر باحتشاء العضلة القلبية التي أدت إلى الوفاة لتركهم وحيدين في المنزل، مشيراً إلى أن معظم الحالات كان متوسط أعمارها فوق الستين عاماً».
ويعتقد الدكتور حجو «أن سبب معظم هذه الوفيات يرجع للحالات النفسية التي يعاني منها المتقدمون في العمر نتيجة «هجرة أولاد المتوفى وتركه وحيداً في المنزل». وأفاد الدكتور حجو أن «أكثر الحالات يتم الكشف عنها في حلب».
يرى الدكتور حجو أن هذه الظاهرة كانت نادرة قبل الحرب التي تشنها الفاشية العالمية وأذنابها على سورية، فـاحتشاءات العضلة القلبية زادت نتيجة الأوضاع النفسية، وقد ارتفعت في سورية نسبة الوفيات بين المعمرين الذين يعيشون بمفردهم، ولا يجدون من يقوم بنقلهم إلى المشفى لتلقي العلاج في الوقت المناسب.
ما أقلقني أكثر هو أن بعض الوفيات «كانت نتيجة جرائم جنائية»، من أقارب المجني عليه! وقد أشار الدكتور حاجو إلى أن «بعض الجرائم تم ارتكابها عبر استخدام وسيلة الخنق الخفيف لإدراجها تحت مسمى احتشاء القلب لتضليل الكشف عن الجريمة، لافتاً إلى أن بعض المجرمين لديهم خبرة عبر الإنترنت. «إلا أن الدكتور حجو يبشرنا بأن المجرمين في بلادنا لم يصلوا إلى عقلية الاحتراف الكامل في ارتكاب الجريمة، وهذا ما يسهل كشفها»!
يقال إن الموت جمل أسود يبرك أمام جميع الأبواب، وقد علمني أبي رحمه اللـه أن أحترم الموت، وأن أساير ذوي الموتى فلا أذكر إلا محاسن موتاهم. رغم ذلك أجد صعوبة بالغة في ابتلاع وهضم المراثي الفيسبوكية التي يدبجها المهاجرون السوريون في أوروبا لذويهم، وخاصة منهم من تركوا أهلهم والبلد من دون أن يكونوا معرضين لخطر يذكر!
وقد قرأت قبل مدة (مرثية) واحد من هؤلاء لأمه التي تركها في البلد بمفردها، واعداً إياها بأن يلم شمله بها فور حصوله على الإقامة، لكن الأم أصيبت من فرط التوتر، باحتشاء العضلة القلبية، فتوفيت لرحمة ربها، لأنه لم يكن معها من يسعفها!
مسكين ذلك الشاب، سوف يمضي بقية عمره، وهو يتساءل في سره، عما إذا كان مسؤولاً عن موت أمه؟