تبدل المشهد السوري منذ إعلان تركيا والولايات المتحدة عن تشكيل غرفة عمليات مشتركة بشأن الشمال السوري، ومهما بدا الترابط بين هذا التوافق والمعارك في ريفي إدلب وحماة، فإن مسألة المنطقة الآمنة أعادت تشكيل التوازن السوري، وربما ستطرح توزعاً مختلفاً للقوى عما شهدته الأزمة خلال السنوات الماضية.
عمليا فإن غرفة العمليات الأميركية التركية بشأن المنطقة الآمنة تظهر ضمن إطار أساسي؛ هدفه تهدئة المخاوف الكردية، والحفاظ على ميليشيا « قوات سورية الديمقراطية – قسد» وإعادة تحديد مهامها من جديد، فالولايات المتحدة تطرح ضمانات عبر التنسيق مع الأتراك حيث تصبح «المنطقة الآمنة» نقطة انتشار مشترك، تتيح للأكراد ممارسة إدارة ذاتية تشبه ما تقوم به السلطة الفلسطينية في أراضي الضفة، ومن المفترض أن تنسحب هذه الصيغة على كامل شرقي الفرات، فتتحول قوة الأكراد إلى إدارة من دون الدولة، وهو ما يرضي تركيا، وتحافظ على هيكليتها العامة بشكل يحقق للأكراد نفوذا خارج المنطقة الآمنة.
هذه الصيغة تطرح توازناً سورياً جديداً يُخرج مناطق شرقي الفرات من عمليات التفاوض لحل الأزمة، وهو أمر لا يبدو جديداً لأن تمثيل «قسد» في وفود التفاوض بقي غائباً طوال الفترة الماضية، والشكل الحالي فيما لو ظهرت المنطقة الآمنة يطرح مؤشرين:
– الأول إنهاء أي حالة شرعية لوجود الأكراد ضمن عمليات التفاوض، فهم اليوم ليسوا مستبعدين، إنما تم وضعهم في سياق ترتيب إقليمي تضمنه الولايات المتحدة وتراقبه تركيا، حيث ستقدم المنطقة الآمنة إمكانية إدارة المناطق لاستثمارها إقليمياً من دون الخوض في الطبيعة السياسية القادمة لشرقي الفرات.
تمت صياغة المنطقة الآمنة لتحييد الأكراد عموماً عن الصراع الإقليمي القائم حالياً فوق الأرض السورية، وإيجاد هذا الحزام العازل الذي من المفترض أن يصبح ملاذاً لمعظم اللاجئين السوريين في تركيا، وبالطبع فإن التفكير لا يذهب نحو تغيير ديمغرافي يبعد الأكراد بل يضعهم مع اللاجئين ضمن إدارة لها مرجعية في «قسد»، ولكنها غير قادرة على تشكيل كتلة على الأرض بفعل الترتيبات الأميركية، وبشكل مشابه لواقع السلطة الفلسطينية، فهي سلطة غير حاكمة وممثلة دولياً عبر التفاهمات التركية الأميركية.
– الثاني إزاحة الغطاء التركي عن إدلب التي تعتبر منطقة خلافية على المستويين الدولي والإقليمي، فالفصائل الموجودة فيها مصنفة وفق الخارجية الأميركية «إرهابية»، وفي الوقت نفسه لا تسمح الولايات المتحدة بإنهائها مرحلياً، فهي متروكة للتفاهمات الدولية بشأن الحل النهائي للأزمة السورية.
بالتأكيد فإن الغطاء التركي للفصائل في إدلب مازال موجوداً، لكن أنقرة غير قادرة على إدارة ملفين أمنيين بامتياز: الأول في شرقي الفرات والثاني في محافظة إدلب، فالملفان متناقضان وهو ما أتاح هامشاً عسكرياً مهماً للدولة السورية، حيث تبدأ بالتعامل مع هذه المجموعات، في ظل عدم قدرة العواصم العالمية على إثارة زوابع إعلامية بشأن النزوح أو الحالات الإنسانية.
التوازن المطروح أميركيا في سورية هو تشتيت السيادة السورية من دون الدخول بإيجاد حالات تقسيم قسري، فخلق إدارة في شرقي الفرات يشكل نموذجاً ربما لا يرضي «قسد» أو تركيا لكنه يطرح تحديات أمام سورية على مستوى المرحلة القادمة للأزمة، فالولايات المتحدة ليست معنية بنجاح هذه التجربة بقدر اهتمامها بخلق توازن مع روسيا عبر وجودها «الرمزي» عسكرياً في سورية، والنفوذ السياسي الذي تؤمنه المنطقة الآمنة بالتعاون مع تركيا، وفي الوقت نفسه فهي تريد تأمين خاصرة قواتها في العراق، فـ«قسد» ستتحول لاحقاً إلى شكل أمني يشبه ما تقوم به «السلطة الفلسطينية» بعد اتفاق دايتون، فهي في النهاية ستتحول في حال تنفيذ المنطقة الآمنة لقوات تنسيق أمني غير قادرة على التحرك السياسي.