لا يمكن توصيف «الاتفاق» الأميركي التركي المعلن يوم 7 آب الجاري حول مناطق الشرق السوري بأنه اتفاق سياسي ناجم عن وجود تلاقيات في الرؤى أو المصالح أو الأهداف، وإنما هو توافق فرضته لحظة سياسية بالغة الحرج في معطيات واشنطن وأنقرة على حد سواء تلك المؤثرة في غرف صناعة القرار لكل منهما على حد سواء.
ما يتوافر حتى الآن من معلومات حول ذلك الاتفاق قليل أو هو غير كاف لرسم صورة دقيقة عنه، أو وضع تصورات تؤكد فرص نجاحه من عدمها، لكن يمكن تشكيل نظرة أولية عنه عبر البيانان الصادران عن السفارة الأميركية في أنقرة الذي أعقبه بيان من وزارة الخارجية الأميركية خاص بالشأن نفسه وفيه جرى التأكيد أن الطرفين سيعملان على «بذل كل الجهود الممكنة ليتمكن اللاجئون السوريون من العودة إلى بلادهم»، وكذا من بيان الخارجية التركية الذي أعقبه بدوره العديد من التصريحات للعديد من المسؤولين الأتراك بدءاً برأس الهرم ونزولاً إلى بعض القمم فيه، وعبر الصورة المتشكلة من تلك المعطيات يمكن الجزم أن ذلك الاتفاق يعكس توافقاً على إدارة الخلافات التي تفرضها التفاصيل الحاكمة التي غابت تماماً عن المشهد، وبذا يصح القول إن الاتفاق هو نوع من التوافق على برمجة تلك الخلافات في محاولة لتجاوز عنق الزجاجة ريثما تنقشع الغيوم التي ما انفكت تتراكم في سماوات أنقرة والتي يصعب على أي مركز تنبؤ جوي مهما علت تكنولوجياته أن يتنبأ إلى أين ستمضي؟ ومتى وأين ستمطر؟
جاء في بيان السفارة الأميركية الذي أعقب الإعلان عن الاتفاق أن هذا الأخير يقضي بإنشاء «ممر للسلام» في مناطق الشمال السوري، أما آليات التنفيذ فهي تستند إلى إقامة مركز عمليات مقره تركيا بهدف تنسيق وإدارة ذلك الممر، ووفق وسائل إعلام تركية رسمية فإن الاتفاق سوف يحمل في تطبيقاته إخلاء المنطقة التي ستشملها هذي الأخيرة من الميليشيات الكردية المسلحة بعد تسليم هؤلاء لأسلحتهم الثقيلة وتدمير الأنفاق والتحصينات التي أقاموها منذ أن قامت واشنطن بمساعدتهم في بناء جسم عسكري عام 2015 وكان معلناً آنذاك أنه بهدف محاربة تنظيم الدولة الإسلامية قبيل أن يشهد هذا الأخير دك آخر معاقله السورية في بلدة الباغوز في ريف دير الزور أواخر آذار الماضي.
غاب عن البيانين ذكر مكان مركز العمليات سابق الذكر، كما غاب ذكر عمق «المنطقة الآمنة» التي كانت تطالب أنقرة بأن تكون في حدود 30-40 كم على حين إن واشنطن كانت تصر في خلال جولات التفاوض التي استمرت فقط ما بين 5 و7 آب إلى 20 ساعة على ألا يتجاوز ذلك العمق الـ15 كم على أبعد تقدير، وإن سرت مؤخراً تسريبات تقول إن واشنطن وافقت على عمق 20 ميلاً أي بحدود 32 وهذا التسريب يعني أنها ستكتسح عمق الوجود الكردي الذي يتمركز جله في أتونه، أما الامتداد فمن الصعب القول إن هذا الأخير سيشمل، كما تطالب أنقرة، مسافة تمتد إلى 480 كم أي من جرابلس إلى الحدود العراقية والراجح هو أن يكون المقصود فيه التمكين في نقاط تعتبر استنادية مثل عين العرب وتل أبيض ورأس العين.
هذه السردية السابقة تفترض أن الاتفاق يحمل نقاط خلاف أكثر من نقاط التوافق، بل من الجائز القول إن كل نقطة توافق احتواها تحتاج إلى اتفاقات أخرى حولها، وهو ما يمكن تلمسه عبر تصريح المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية شون روبرتسون حين قال: «إن الآلية الأمنية التي جرى الاتفاق عليها مع تركيا سيتم تنفيذها على مراحل» وهي تتأكد أيضاً عبر إعلان وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الذي قال: إن بلاده «لن تسمح بأن يعاني ملف المنطقة الآمنة التأجيل» في إشارة إلى اتفاق منبج الذي توصل إليه الطرفان الأميركي والتركي في آب من العام الماضي والذي عانى من هذا الأمر نفسه وهو لا يزال يراوح في مكانه حتى الآن.
كان من الواضح أن أنقرة حاولت، ومنذ الإعلان عن التوصل إلى اتفاق، الظهور بمظهر من تنفس الصعداء، فالحلم الذي سعت إليه منذ انطلاقة الأزمة السورية يبدو وكأنه ماض نحو التجسيد واقعاً على الأرض، وإذا ما كان الحلم قد بدا متعثراً بفعل التحالف الأميركي مع الميليشيات الكردية ثم ابتعد أكثر مع التدخل العسكري الروسي في سورية عام 2015، فإنها، أي أنقرة، تجد نفسها قد حققت نجاحاً في «مراقصة الثعابين» عبر اللعب على حبل التناقضات القائم ما بين موسكو وواشنطن، وترى أيضاً أنها نجحت في توسعة شقوق السياسة عبر «إزاميل» ساعدت في توسيع هامش المناورة لديها، ولربما كان هناك الشيء الكثير في تلك الرؤى ما يشي بصحتها، إلا أن الطريق إلى قطف الثمار يحوي الكثير من العثرات في مقدمها العلاقة الأميركية التركية المتوترة ما بعد 12 تموز الذي شهد وصول الدفعات الأولى من منظومة «إس400» الروسية، والراجح هو أن واشنطن مضت نحو تقديم تنازلات لأنقرة لم يكن مقبولاً تقديمها قبل وقت قصير في محاولة جادة لجذب الذراع التركية إليها أو على الأقل وقف انجذاب هذي الأخيرة نحو موسكو عند الحدود التي وصل إليها، وفي هذه الحالة سيكون الرهان الأميركي إما على إعادة الشريد التركي إلى الحضن الأميركية وإما على تغييرات مهمة يمكن أن تشهدها أنقرة قريباً.
على الضفة الروسية للمشهد فمن المؤكد أن موسكو قلقة جراء ما حصل، والقلق هنا مشروع لأنه سيفرض واقعاً جديداً على الوجود العسكري الأميركي في الشرق السوري وهو سيزيد من تعقيدات الأزمة السورية التي ليست بحاجة إلى المزيد منها، ومن المؤكد أنه سيوسع الشرخ الواسع أصلاً مع أنقرة في محادثات أستانا وقد يذهب بهذي الأخيرة نحو تلاقيات جديدة مع «المجموعة المصغرة» لحل الأزمة السورية ما يمكن أن يدعم إحياء خيار جنيف الذي تلاشى بفعل عاملين اثنين أولهما تطورات الميدان وثانيهما نشاط مساري أستانا وسوتشي، لكنها، أي موسكو، فضلت الصمت وعدم الإعلان عن أي موقف رسمي في مؤشر إلى أن القراءة الروسية ترى وجوب الانتظار لاستطلاع آليات التنفيذ التي ستكون كما «العقدة» عند النجار، ثم لتبيان مدى تأثير الاتفاق الأميركي التركي الأخير على تفاهمات أنقرة مع موسكو التي أتمت عامها الثالث قبل أيام، والمؤكد أنها أنجزت الكثير في غضون الأعوام الثلاثة الماضية، إلا أن خيارات الروس في مواجهة خطوة تركية كهذه تبدو قليلة بفعل عوامل عديدة أبرزها تنامي العديد من المشكلات الاقتصادية التي عكست مؤخراً تنامي حراك احتجاجي في موسكو وعلى الرغم من ضيق رقعة هذا الأخير إلا أن الحسابات ستأخذ بالحسبان إمكان اتساعه إذا ما ظلت العجلة تدور وفق رتمها السابق، ومنها المترتبات الحاصلة ما بعد انهيار معاهدة الأسلحة النووية المتوسطة والقصيرة المدى مع واشنطن في تموز الماضي.
كخلاصة يمكن القول إن احتمال أن يأخذ الاتفاق التركي الأميركي طريقه إلى التطبيق يبدو أمراً متعثراً أو هو سيعاني إرباكاً على المدى البعيد، إلا أن ذلك لو حصل فإنه سيكون عاملاً مسرعاً في استعادة إدلب إلى حضن السيادة السورية بفعل عاملين أولهما أن دمشق ستمارس المزيد من الضغوط على الحليف الروسي الذي سيكون على استعداد لتفهمها كوسيلة للضغط على أنقرة وتحقيق المزيد من النقاط في مرماها، ثم أن هذي الأخيرة ستضطر حال البدء بتنفيذ الاتفاق إلى سحب الوحدات الحليفة لها من إدلب ومحيطها لوضعها في نطاق المنطقة الآمنة، والمعادلة الحاكمة ما بعد 7 آب المنصرم ستفرض تقدماً على جبهة إدلب بالتزامن مع كل تقدم يحققه مشروع «المنطقة الآمنة».
أياً تكن مآلات الاتفاق التركي الأميركي الذي يجب أن يفتح العين الكردية على آفاق جديدة، فإن مجرد الإعلان عنه يعني حالة استعداد أميركية للمساومة على الورقة الكردية وحسابات الأكراد يجب أن تنطلق اليوم من أن «بازار» المساومة قد بدأ فعلاً، وبمقياس الواقعية السياسية فإن الخيارات الكردية يجب أن تدفع باتجاه حرق كل المراكب والتوجه جنوباً نحو دمشق والخشية أن يكون الوقت قد تأخر.