لا يمكن للمرء مقاومة الإحساس بالبرودة لدى متابعته إعلان وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية قبل أيام «الانتهاء من دراسة المواد الـ40 المرشحة للتصنيع محلياً ضمن برنامج إحلال المستوردات».
خلافاً لنشاطه التقليدي في تسيير الأمور، يدرك الوزير أن المبادرة تعنيه بشكل شخصي، فهي لربما نافذته الوحيدة للإطلال كراسم سياسات على الاقتصاد الوطني من باب الاستجابة العملانية لمواجعه الحقيقية، ولأنها كذلك، فلربما كان المرء بحاجة إلى تلك «الجذوة» التي نجح من خلالها بإشاعة الأمل في هواء قطاع الإنتاج الوطني ساعة إعلانه عن إطلاق المبادرة نهاية العام الماضي.
للوقوف بدقة على مدى اختلال المشاعر باردها وساخنها، يجدر بوزير الاقتصاد العودة إلى تلك الأيام لحظة إطلاق المبادرة، ورسم خط بياني يصلها بساعة الإعلان عن الانتهاء من وضع مضامينها العملية، ليتأكد بأنه نجح جيداً بإشاعة التشاؤم، ففي تلك الأيام من العام الماضي، كان سهلاً على المرء قطف الآمال وهي تتراقص بين كلماته مفنداً ما قد تصير إليه أمور التعافي بعد تمريره من باب الإنتاج المحلي نحو رأب الثغرات القاتلة في ميزاننا التجاري، أبرز المسؤولين عن الغالبية الساحقة من آلامنا الاجتماعية، وعن حالة التضاد التي باتت تقبض بكلتا يديها على رقبة قراراتنا النقدية مهددة بالنقيضين التلقائيين: الركود، والتضخم.
في إعلانه الانتهاء من دراسة السلع الـ40، كان حريا بوزير الاقتصاد ألا يكبح من اندفاعة تلك الآمال المعقودة على النتائج باستخدام عبارات (على المدى الطويل) التي لا يحتملها واقع الحال.
ومع ذلك، فهذا الشق ليس سوى (أوقية) من بواعث التشاؤم المغلفة (بالواقعية) لدى تفنيده تمرحل المبادرة وأثرها المتوقع على الاقتصاد الوطني، أما (كونتينر التشاؤم)، فجسدته الرشقة البيروقراطية التي ربط الوزير من خلاها نجاح المبادرة بتعافينا من سلسلة الأمراض الإدارية والاقتصادية المزمنة، فبعد ربط مآلاتها بـمدى التزام الجهات والوزارات المعنية بتنفيذ التوصيات الصادرة عن مجلس الوزراء واللجنة الاقتصادية بموجب البرنامج.. والتسويق السليم للفرص الاستثمارية الخاصة بالصناعات التي تم اعتمادها كصناعات بديلة من المستوردات.. وتبسيط الإجراءات اللازمة لهذه المشروعات الاستثمارية.. وضبط التهريب وتمكين الحماية.. يمكن التساؤل: ما الذي بقي من المبادرة ولها؟.. فلو أصلحنا كل ذلك، فلماذا نحتاج هذه المبادرة أصلاً؟!.
في توازع المسؤوليات، يجدر التيقن من أن وزير الاقتصاد ليس موقعاً سهلاً في الحكومات.. كما مبادرة إحلال بدائل المستوردات ليست خياراً رفاهياً لاقتصادنا الاجتماعي.. بينما الحكومة ليست مجرد مكتب دراسات يضع المقترحات، بل سلطة!
كل ذلك يعني أن التزام الجهات وتبسيط الإجراءات ومكافحة التهريب وتمكين الحماية هي مهام تقع في صلب المبادرة وقد يجدر التعاطي مع أسباب نجاحها من خارج الأطر البيروقراطية المعتادة حتى لو استلزم الأمر دفعها إلى جزيرة مستقلة من القوانين والإجراءات.
ولا أحد في الحكومة، كل الحكومة، يمكنه أن يقف حيادا منها، أو التخفف من مسؤوليته في توضيب المتطلبات الضرورية للمضي فيها ما دامت ليست خياراً رفاهياً، وما دامت «تنسجم مع التوجهات التنموية القطاعية للحكومة ولقطاعات رائدة تمتلك مقومات النمو والتطور»، كما قال وزير الاقتصاد ذاته، مردّدا شعارات الحكومة!.