في تقرير لها، تقول الـ«بي بي سي» إن مسلسلاً تلفزيونياً بدأ إنتاجه منذ عامين، غيّر وجهة نظر العامة تجاه الملكية البريطانية، وتحديدا العائلة المالكة التي تشكل عماد التقليد البريطاني العريق الممتد لمئات السنين.
مسلسل «التاج»، تبثه عدة شبكات تلفزيونية، ويحظى بمديح النقاد والجمهور، لما فيه من حرفية عالية من النواحي الفنية كافة. يركز العمل على حياة الملكة الحالية إليزابيث الثانية، من طفولتها حتى اعتلائها العرش وهي ما زالت شابة، وصولاً لأيامنا الحالية، علماً أن هذه الفترة لم تعالج بعد، لكون العمل مواسم، لكنه لا يبدي حرجاً من تقديم كل المراحل التي مرت بها الملكة، من عقبات، وخيبات، وفشل، ونجاح.
لا يظهر العمل الملكة (على الأقل حتى الموسم الثاني) إلا كما يفترض أن تكون، ضعيفة في بلد يحتكم للملكية ضمن إطار تقليد دستوري، دون أن يكون لها تأثير فعلي في مجريات الأحداث، فيقتصر دورها على العلم بها وتأييدها، وأحياناً يُحجب عنها ما هو ضروري حجبه، فالمؤسسات الحاكمة أقوى من الملكة، رغم أن الملكة بالعرف الدستوري هي السلطة الدينية والأخلاقية الأعلى في البلاد.
شخصيا، كنت أرى إعلان العمل، وأقول لنفسي، لا تنقص حياتي بروباغندا إضافية، لكن مديح الإعلام، دفعني لاختبار عدة حلقات، وتبين أن العمل مهني، وعميق، ولا يخلو من جرأة.
طبيعي أنه يتناول أموراً كثيرة من وجهة نظر صانعيه، لكنك تتساءل وأنت تشاهده، كم من الأذونات تطلب هذا العمل، وحجم البحث الذي لا يمكن أن يخلو من لقاءات شخصية لشهود عيان، وشخصيات تاريخية؟
يقدم المسلسل شخصيات كثيرة، واجهت الملكة وواجهت الملكية ودفعتها نحو القرن الحادي والعشرين، بعد أن كان حرسها القديم متمسكا بتقاليد كنسية تعود إلى مئات السنين للوراء.
لا يمجد العمل الملكية، ولا يدافع عنها، وإنما يحاول تقديمها ضمن إطارها المؤسساتي الصارم الذي يتحرك بقوى آدمية، هي بشر، تشعر وتتأثر وتخطئ، تقوم وتتعثر، مثلنا تماماً.
العمل كما يمكن توقعه حائز موافقة القصر، ومطلع على أرشيفه.
لكن، أنا كشرق أوسطي أتساءل، ما الذي تجنيه الأسرة الملكية من دعاية، تقدمها كما هي؟ دون عصا سحرية، ومجردة من القوة الأخلاقية الخارقة، ومحل شكوك الملايين من مواطنيها؟ فالدعاية التي نعرفها نحن، هي عن الذين لا يخطئون، ولا يتعثرون، ولا يضعفون، ولا يمكن التشكيك بهم.
أين العبرة إذاً؟ ربما، مع تواضع محاولة الإجابة، تكمن القضية في الأسلوب، والفكرة معا.
فالأسلوب الدرامي الراقي، المدروس، والمرهف، والعالي الحسية، يحمل الفكرة على بساط ريح، الفكرة المتمثلة أننا كلنا بشر أولاً، مهما كبرت ألقابنا وثرواتنا، وسلطتنا، وأننا حتى عندما نظهر للعلن كممثلين لقيم عليا، ولمؤسسات، فإن قيمتنا الحقيقية والمعنوية، هي في مدى الجدوى التي نقدمها لمؤسساتنا ولتلك القيم العليا.
فالقيم، والمؤسسة، أهم من الفرد، لا العكس، من دون إغفال أن الشفافية، وعرض خزانات بعض الأسرار «وليس كلها»، يعني ما يعنيه من احترام وثقة، بين ثلاثة أطراف. صاحب السر، والجمهور، وحامل الأمانة الوسيط بينهما.
متعة حقيقية تمنحها مشاهدة هذه العمل، رغم أنك في أثناء المشاهدة لا تستطيع إلا أن تفكر بأزمات وكوارث عربية تتجدد باستمرار، يقابلها.. صمت المؤسسات، والأفراد، وانعدام رغبتها في أي دعاية عصرية، خفيفة الظل، مبنية على الاحترام المتبادل مع الجمهور.